«أمومة» إيمان مرسال بين توهم وشعور بالذنب

محمد عبد النبي

تحاول سلسلة «كيف ت…؟» الصادرة عن جمعية «مفردات» التي تُعنى بالفنون المعاصرة، عن تقديم اقتراحات بديلة لاحتياجاتٍ أخرى، في إصداراتٍ بحجم الجيب تتسم بطرح ثقافي مختلف وخاص. وفي هذه السلسلة صدر كتيّب للشاعرة إيمان مرسال بعنوان «كيف تلتئم؟ عن الأمومة وأشباحها». وهو يمزج ببراعة بين الخبرات الذاتية والتأملات النظرية في صُور الأمومة وأشباحها بعيداً من الأيقونة المؤسَّسة في المتن العام، عبر نصوص أدبية وغير أدبية ومحطات أساسية في تاريخ الفوتوغرافيا.
تنطلق الكاتبة في الفصل الأول من قصيدةٍ للشاعرة البولندية آنّا سوير، تتحدث فيها إلى ابنتها المولودة لتوّها، رافضةً أن تكون لها مجرد جسر مُشاة تعبره الوليدة في الطريق إلى حياتها. تنبشُ إيمان مرسال، في الفصل الأول من كتابها، معنى الأيقونة التقليدية والآمنة للأمومة، وتكشف عن جوانب العنف التي تنطوي عليها تلك الخبرة، مؤكّدة ثنائية الاتصال- الانفصال بين الأم والجنين ثم الطفل، تلك الثنائية التي يتنازعها قطبا تهديد الذات من ناحية والشعور بالذنب من ناحيةٍ أخرى.
وعلى رغم أن «الانفصال لا التماهي هو شرط النجاة لكليهما»، حتى على المستوى البيولوجي، فإن الصراع الذي يمتد على طول الحبل السُري لا ينتهي بالولادة بل يتواصل إلى ما لا نهاية تقريباً، حتى ينتصر في النهاية الشعور بالذنب الذي يكادُ يوحّد الأمهات، ذلك الشعور الذي ينتج عن المسافة بين الصورة المثالية للأمومة كما تنتجها السرديات الثقافية والدينية السائدة وبين إخفاقات الخبرة الشخصية النسبية أمام الأم النموذج والمثال.
تنتبه الكاتبة إلى أن ذلك النموذج العام يطمس الخبرة الفردية لكل أم، حتى في الاتجاه النسوي الغربي الذي يتجنّب الإنصات إلى تلك الخبرات، ويركّز في المقابل على الدعوة إلى المساواة بين الرجل والمرأة، فكأنه يحشر النساء داخل مقاييس موحّدة لا تلتفت إلى التفاوت والاختلاف والخصوصية، كما يغفل ما تنطوي عليه خبرة الأمومة من «عنف وغضب وإحباط». لذلك كله يؤثر الكُتَيب التماسَ الخبرة الخاصة والائتناس بالسرد، والإنصات لأصوات تقف على حافة المتن العام أو خارجه تماماً، كما لدى الشاعرة آنا سوير، أو في بعض قصائد السورية سنية صالح، التي تشي برغبتها في الاندماج التام بابنتها وفزعها من الانفصال عنها والرغبة في أن تلتئم بها لتكونا واحداً، كنتيجة لفقد الأم- الشاعرة أمّها، والانفصال القسري عنها في السابق.
تتكئ مرسال على نماذج أخرى تخييلية في مقاربتها عنف الأمومة وصورها، مثل رواية جون كويتزي إليزابيث كوستلو، بحيث تعجز الأم- الكاتبة كوستلو عن التضحية بعزلتها اللازمة من أجل أطفالها.
هذا الصراع على الوقت والطاقة لدى الأم الكاتبة ليس إلّا وجهاً واحداً فقط لمأزق الأمومة في مجمله. ولو لم تكن الأم كاتبة بالمرّة، فإنّها تظل فريسة سهلة لاحتمالات العجز عن لعب الدور النموذجي، والاتهام بالأنانية والتقصير، حتى من خلال بعض الممارسات الصحية في فترة ما قبل الزواج والحمل، من قبيل التدخين أو عدم الاعتناء الكافي بالصحة، فيكون لها أثر كابوسي عندما يحدث الحَمل. هُنا يتبدى الجسد كأداة محضة، وتمتد الهواجس من الجسد إلى النَفس، عبرَ بقايا خبرات الماضي والتاريخ الشخصي، بكل احتمالات تشوّهاته، وما قد يعدّ عقبة على جسر خروج طفل جديد معافى بدناً ونَفساً إلى الوجود.
لا يبتعد الاستئناس بالسرديات الفردية، متخيلة أو حقيقية، تخصّ الكاتبة أو سواها من النساء، عن ضرورة اتخاذ موقع واضح لإنعام النظر، زاوية للرؤية، ابنة أو أُم، شاهِد أو مشهود، تماماً كالأدوار أو الممارسات الثلاث التي أشارت إليها الكاتبة عبر الإحالة إلى رولان بارت في أي صورة فوتوغرافية: الفاعل وهو المصوّر، الناظرون، والشخص موضوع الصورة وهو الهدف أو المرجع.
تضع الكاتبة يدها على مفارقة ساطعة في الفصل الثاني المخصص للأمومة والفوتوغرافيا، وهي مفارقة الأم المخفية حينما كان يلجأ المصورون الأوائل في إخفاء الأم وراء شرشف أو ستارة ليتمكنوا من التقاط صورة غير مهزوزة للرضيع وهو آمن في حضن أمه. يمتد مجاز الأم المخفية إلى نطاقات أخرى بطبيعة الحال، ويلامس أيضاً العلاقة بين ما ظهرَ في الصورة الفوتوغرافية وما ظل مستبعداً منها. فكما تتخذ الكاتبة مسافة حريصة من أيقونة الأمومة في المتن العام فإنها تنشغل هنا أيضاً بالجوانب الخفية والمطموسة، مثل الأم التي ارتدت الحجاب والنقاب فصارت تقص صورها القديمة عندما كانت تكشف شعرها وترتدي ثياباً على الموضة، أو مثل قَص حدود هيكل الأم التي هربت من البيت وتخلّت عن أطفالها من جميع الصور العائلية التي تظهر فيها. عبر نماذج وإشارات متعددة ومتواثبة بين أماكن وثقافات وأزمنة مختلفة، تتلمس مرسال السردية التي تقدمها صور الأم، في الفن والثقافة جنباً إلى جنب ألبوم الصور العائلي كسرديةٍ خاصة تسعي لطرح تصوّر محدد عن الأسرة وتاريخها.
تتخذ الكتابة في الفصل الثالث، «يوميات»، منحى ذاتياً، إذ تُعرَض الخبرة المباشرة لإيمان مرسال من دون أي تأملات نظرية تقريباً، عبر استدعاء لحظات مُسجّلة من دفاتر يومياتها على مدى بضع سنوات، قاست خلالها هواجس وكوابيس تخصها كأم، وعبر طرح شذرات من تجربتها مع أحد أبنيها المسكون بهواجس نفسية جسيمة، هواجس اضطرتْ كل المقربين منه لقطع مسيرة شاقة بغية دعمه والاعتناء به.
لا تسلم صفحات اليوميات من شُبهات الشعور بالذنب، ولو بسبب الشك في انتقال الأزمات النفسية بالوراثة، أو بسبب القصور في تأدية مهام الأم كما يجب، أي وفقاً للتصور السائد في الأيقونة المقدسة لكل أم. الشعور الذي يتجسّد درامياً في حُلم تحاكَم فيه الكاتبة من ممثلين عن كل السُلطات الاجتماعية والطبية التي تتداخل في علاقتها بابنها المريض، ما يضاعف الإحساس بالعجز عن دفع التُهمة هُنا اختلاف اللغة، أو بالأحرى انعدام جسر تواصل واضح لرسم الأبعاد الحقيقية للخبرة النفسية العميقة، وإذ يخرس اللسان لا يتبقى غير فعل الكتابة، كوسيلة غير مباشرة للكشف والبوح والتحليل.
ومن ثم تعود الكاتبة في الفصل الأخير إلى طريق الحداد الذي بدأته مبكراً جداً مع خبرة وفاة الأم، ثم مع تهديدات الفقد الأخرى، التي وقعت حقاً أو ظلّت شبحاً مُطارِداً، لتعيد عَقد أطراف الخيوط المتفرقة، إذ يشتبك بدرجةٍ أوضح الذاتي مع الموضوعي والسِيَري مع النظري، ويُستَعاد طيفُ الأم عبر الأحلام فيتأرجح بندول الحبل السُرّي بين الاتصال والانفصال مرةً بعد أخرى.
تُستعَاد أيضاً الجَدة، أم الأم، التي عاشت تحت وطأة الشعور بالذنب لموت ابنتها قبلها بعشرين سنة تقريباً، وأسباب مسؤوليتها الضمنية عن ذلك. وتربط الكاتبة بين مشاعر الجدة إزاء موت ابنتها ووصف كاتبة أميركية، هي آجنس لي، بعد مقتل ابنتها في رحلة مدرسية، بحيث تقول إنّ حدادها شعور لانهائي بالذنب. وعلى رغم أنها رئيسة قسم الدراسات النسوية في جامعة ماساتشوستس، تتخيّلها مِرسال في مثل وضع جدّتها، جالسةً في الظلام تعاقب نفسها، وتتساءل كيف سمحت لنفسها أن تستمر في الحياة بعدها. لكنّ المسكوت عنه هُنا هو الفارق الأساسي بين المرأتين في عيش حدادهما وأسفهما. ففي حين راحت الجدة تروي شجرة ذنبها عاماً بعد عام ربما استطاعت المرأة الكاتبة (آجنس لي أو إيمان مرسال) أن تضع يدها على تلك المشاعر، أن تمنحها اسماً ووصفاً، أن تتخذ منها مسافةً آمنة لتراها كجسمٍ غريب يسكنها، أو جسم حميم لا تريد له أن ينفصل عنها، فكأنّ التشبث بالسردية الخاصة لكل امرأة -لكل إنسان- هو طوق نجاته الأوَّل لعله يلتئم مع كل تمزق جديد.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى