«الربع الخالي» لعابد خزندار .. رواية بجدارة: «احكِ أو تمت»

عواض العصيمي

تتدفق اللغة في رواية «الربع الخالي» للأديب الراحل عابد خزندار من دون تكلف أو قسر، كمثل بحيرة عميقة بينها وبين رأس المجرى قطرة من الماء، إن تزحزحت القطرة من مكانها جرت البحيرة على منوالها من دون توقف. حين المجرى بكامله ترهنه قطرة من ماء إلى حركة صغيرة منها فإن مصير المجرى عندئذ لن يوقفه عند منخفض طبيعي بسيط أو في منعطف عادي، بل سيأخذه إلى أقصى وأبعد ما يمكن عن المنبع.
إنها لغة أديب لا تعوزه خبرة الكتابة الأدبية وسلاستها وسيولتها، كما أنها لغة مثقف عميق الثقافة، طوف في آفاق حقول فكرية وفلسفية واجتماعية،########## حتى سلس قياد العبارة في يد أي معنى شاء. أظن أن القطرة التي تزحزحت من مكانها ثم تدفقت من بعدها البحيرة التي هي في حقيقة الأمر حزمة الحكايات التي تضمنتها الرواية، أظن أنها لا تبعد كثيراً عن الخيار المصيري الذي تأسست عليه حكايات ألف ليلة وليلة، وهو أن توجد حكاية في كل ليلة لكي يتأخر الموت، أو كما صاغها التعريف عن عبدالكبير الخطيبي حول كتابه «الذاكرة الموشومة» على النحو التالي على ما أتذكر «هات حكاية وإلا قتلتك». الأديب الراحل عابد خزندار يضع بطله في الرواية على شغبة هذا الخيار، احك أو تمت، والموت هنا هو موت الحكايات في صدر البطل إلى الأبد.
ولنتخيل أن هذا القدر من الحكايات التي رويت انتهت إلى التراب، لنفترض أنها فقدت ظلالها في حياة راويها بكتمانه إياها، ومن ثم فقدت ظلالها في الواقع عامة، وواقع قارئ الرواية خصوصاً، لنتخيل كيف ستكون عليه حال المؤلف! أعتقد أنه سيتقبل مرغماً الخيار البديل، أي الموت الحكائي في كنف الصمت انتظاراً للموت البيولوجي. لذلك، تتشكل الرغبة على هذا الشرط مثل قطرة الماء التي تمسك بطرف البحيرة من جهة وبرأس المجرى من جهة أخرى، وفي مقدورها إحداث النقلة الأكبر في مسار الطرفين معاً.
وبدأ خزندار يكتب ما سماه حكايات، وعددها 16 حكاية، تمثل حكايات البطل، وعددها خمس مع إضافات يشاركه فيها غيره، تمثل المتن الذي يهيمن على سيرورة الحكايات الأخرى، وذلك بتوزيعها على فضاءات متباعدة في مساحة السرد في شكل عام، وضبط إيقاعها منعاً لتداخل ما يرويه البطل من جهة وما يرويه الآخرون الذين باحوا له بحكاياتهم من جهة أخرى. وهي – وإن كان يسميها حكايات – تعد أيضاً شهادات عاشها أبطالها في ظروف مختلفة وأماكن مختلفة وأزمنة مختلفة.
عندما تأملت صورة الشجرة التي توسطت غلاف الرواية ترجح عندي أنها سرحة ذات أغصان كثيرة تحيط بها رمال جافة تحت شمس مشتعلة. أعتقد أن لاختيار شجرة السرحة دلالة تنم عن ذكاء لافت، وذلك لأن شجرة السرحة تتميز بمقاومة شديدة للظروف القاسية، وهي أيضاً تخرج ثمراً، كما يقول العارفون بها، يتألف من قرون متعددة، في كل قرن ما بين خمسة إلى ستة فصوص. وهي هنا، ترمز إلى الحكايات الفصوص التي شكلت الرواية في 154 صفحة. وفي ما يلي نماذج من اقتباسات مختلفة أوردها المؤلف في الحكايات المبثوثة، ما يعطي إشارة صغيرة إلى سعة اطلاع الراوي الرئيس أو البطل الذي جاء على صورة المؤلف في سعة اطلاع وعمق ثقافته، وهو ما يعرفه قارئه عنه، وأيضاً تمنح النص فضاءات غير قليلة مترعة بالإشارات والترميزات التي يمكن على نحو ما قرأتها ضمن أجواء العمل من دون أن تكون غريبة عليه أو بعيدة عن مراميه.
فصل «حكايته -2».. ابن الرومي: «يسهل القول إنها أجمل الأشياء طراً ويعسر التحديد»
فصل «حكاية الآخر -1» .. رسالة إلى السادات من مثقفين وأدباء عن «حرب أكتوبر» التي طال انتظارها: «لقد كثر الكلام عن معركة دون معركة، حتى صارت المعركة مضغة في حلوقنا لا نستطيع أن نبتلعها ولا نستطيع أن نمضغها».
فصل «حكايتي-3» .. ريلكه:
«المجد للروح التي يمكن أن توحدنا
فنحن حقاً نعيش كالأشباح
والساعات تمر بطيئة
قريباً من أيامنا الحقيقية»
فصل «حكايتنا».. «فلا الناس بالناس الذين عرفتهم.. ولا الدار بالدار التي كنت تعهد»
فصل «حكايتنا»… «جريدة في صفحة .. مثل طير الليلق»
فصل «حكايتنا» .. من قصيدة T. S. Eleot الرجال جوف.
«نحن الرجال الجوف
نحن المحشوين
مستقلون بعضنا فوق بعض
قطع رأس مليئة يالقش، يا للأسف
وأصواتنا الجافة
حين نتهامس
خافتة بدون معنى
الريح التي تسري في عشب جاف
أو سيقان الجرذان على هشيم الزجاج
في قبونا الجاف
هيئة بدون شكل، ظل بدون لون
قوة مشلولة، إيماءة بدون حركة».
فصل «حكايتي رقم 4»… من قصيدة الأرض الخراب لـEleot:
«تدفق على جسر لندن جمهور حاشد، كما كان عددهم كبيراً..
لم أحسب أن الموت قد حصد كل هؤلاء».
فصل «حكايتي رقم 4».. قصيدة لبودلير بعنوان: «إلى عابرة» منها:
«برق خاطف.. ثم أطبق الليل أيها الجمال الضال
الذي جعلتني نظرته أولد من جديد
هل كتب علي ألا أراك إلا في الأبدية» إلى آخر القصيدة..
فصل «حكايتي رقم 4».. من قصيدة لـ«ألبيركامو»:
«ومع ذلك ينبغي أن نرفع الصخرة من جديد»
فصل «حكايتي رقم 4».. من قصيدة لبودلير بعنوان النحس:
«أن نرفع هذا الحمل الثقيل
يا سيزيف فإننا نحتاج إلى شجاعتك
حتى لو كرسنا كل قلبنا لهذا العبء».
فصل «حكايتي الأخيرة».. «أنكرتها بعد أعوام مضين لها… لا الدار داراً ولا الجيران جيرانا».

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى