في حكومة يوسف الشاهد: أدبنا المرح

منصف الوهايبي

بدءًا أقول إنّه لا علاقة لهذا العنوان برئيس الحكومة التونسيّة السيّد يوسف الشاهد. وقد جاء في مقاييس ابن فارس أنّ الحاء والميم والكاف أصل واحد، هو المنع، ومنه «الحكومة» و«الأحكومة» وهي كلمة اضمحلّت شأنها شأن كلمات كثيرة هي أشبه بشواهد القبور، تثوي في مقبرة لسان العرب.
ومنه أيضا حكم الدابّة بالحَكَمَة، أي منعها من الجهل، والجهل هو السير على الهوى. وإنّما هو عنوان تخيّرته قاصدا متقصّدا لحاجة في نفس يعقوب، وأنا أداخل قصّة يوسف المعروفة في الكتب المقدّسة؛ من أبواب متفرّقة، أو هكذا أحاول؛ على أنّ حاجتي هنا ليست شفقة ولا هي من باب الخوف من العين والحسد، كما جاء في مدوّنة التفسير. وأساس هذه المداخلة أمران: أوّلهما أنّ هذه القصّة تنضوي إلى ما يمكن أن نسمّيه «الأدب المرح» في مدوّنة الأدب العربي القديم؛ وهو أشبه بطقس من طقوس الكتابة الاحتفائيّة بالحبّ والحياة الحرّة فلا قيد عليها ولا حدّ، أو الكتابة المكشوفة وما تعقده من أواصر بين ما هو احتفائيّ وما هو لعبيّ؛ في عمليّة هي أقرب ما يكون إلى مناظرات لعبيّة تستكمل ما أُثِر عن أكثر أسلافنا عامّة من أنّهم كانوا ينظرون إلى المرأة من حيث هي «لعبة» الرّجل. على أنّ الرجل، في السياق الذي نحن فيه هو «لعبة» المرأة.
وثاني الأمرين أنّ صورة يوسف، وليس سورته، تقلّبت في هذا الأدب على نحو مثير؛ فقد أنزلته بعض كتب التفسير سهلَ الأباطح، بعد أن رفعه القرآن إلى أعلى عليّين؛ كما هو الشأن أيضا في نماذج غير قليلة من الشعر العربي في العصر العبّاسي. والحقّ أنّ قناع يوسف أو رمزه شاع أكثر في العصور الإسلاميّة، وإن لم يخلُ الشعر الجاهلي منه تماما، فقد تمثّل به بشر بن أبي خازم والسموأل، ثمّ الأمويّان الفرزدق والأخطل، فالعبّاسيّون أمثال العبّاس بن الأحنف وأبو تمّام والبحتري والمتنبّي. ولكنّ أبا تمّام نقض القاعدة، ونقل يوسف من «شاهد عفّة» إلى «شاهد حُسْن»، كما في قوله:
إِذا غاظَ وَصفُ الناسِ بِالحُسْنِ أَهلَهُ / فَلِمْ لَمْ يُخَرِّق ثَوبَهُ يوسُفُ الحُسنِ
قَرينُ الصِبا في وَجنَتَيهِ مَلاحَةٌ / ذَكَرتُ بِها أَيّامَ يوسُفَ في الحُسنِ
ما استُجمِعَت فِرَقُ الحُسْنِ الَّتي اِفتَرَقَت / عَن يوسُفِ الحُسْنِ حَتّى اِستُجمِعَت فيهِ
وجاء في تفسيرالطبري:
«وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ.»
أنّ راعيل[زليخة] أخذت تذكر ليوسف محاسنه وتشوّقه إلى نفسها.
قالت له: يا يوسف ما أحسن شعرك
قال: هو أول ما ينتثر من جسدي
قالت: يا يوسف ما أحسن وجهك
قال: هو للتراب يأكله.
فلم تزل به حتى أثارته، وفي رواية الطبري»أطمعته» ونزعت نفسه إليها شهوة لها. فهمّت به وهمّ بها فدخلا البيت وغلّقت الأبواب وذهب ليحلّ سراويله؛ فإذا هو بصورة يعقوب قائما في البيت قد عضّ على أصبعه يقول: يا يوسف تواقعها؟
فإنما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جوّ السماء لا يُطاق. ومثلك إذا واقعتها مثله إذا مات ووقع على الأرض؛ لا يستطيع أن يدْفع عن نفسه. ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يُعمل عليه. ومثلك إن واقعتها مثل الثور حين يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه لا يستطيع أن يدْفع عن نفسه. فربط يوسف سراويله واندفع ليخرج فأدركته راعيل فأخذت بمؤخّر قميصه من خلفه، فخرقته حتى أخرجته منه وسقط وطرحه يوسف وجرى نحو الباب.
وقد انزوى أسلافنا في التفاصيل والشوارد؛ وكأنّهم من الكتاب المتلصّصين؛ فقال ابن عبّاس إنّ يوسف جلس من راعيل مجلس الخاتن.
وأخرج آخرون أنّها تزيّنت له ثم استلقت على فراشها، وهمّ بها، وقعد بين شُعبها[اليدان والرجلان]؛ فنودي من السماء: يا ابن يعقوب لا تكن كطائر نُتف ريشه فبقي لا ريش له. فلمْ يتعظ على النداء شيئاً حتى رأى برهان ربّه إذ تمثّل له جبريل في صورة يعقوب عاضّا على أصبعه، ففزع فخرجت شهوته من أنامله. والعبارة لهم.
حتى ليتهيّأ للقارئ؛ كما لو أنّ الطبري كان يراقب المشهد من كوّة في بيت عزيز مصر. وجاء في «مصارع العشّاق» أنّ يوسف «مالَ جناح بعوضة»، وكاد يباشر»زليخة» أو «راعيل»، لولا أن سمع الآية «إنّ اللهَ كان عليهم رقيبًا»، ولكنّه لم يَرْعَوِ، فإذا الصوت يقرع أذنه ثانية:» ولا تقربوا الفواحشَ ما ظهرَ منهَا وما بطَنَ»؛ ثمّ إذا جبريل يهبط، ويضرب صدره ضربة؛ أخرجت الشهوة منه. على أنّ هذه القِصص، خلصت إلى زواج يوسف وامرأة العزيزة، حتى لا تضع «فحولة» يوسف ـ على ما يبدو ـ موضع شك، فالأمر يتعلّق بـ« شاهد العصمة» وليس بـ«شاهد العنّة» [العجز الجنسي]. غير أنّ هناك فروقا ينبغي عدم إغفالها، فالمرأة في القصّة القرآنيّة هي «الراغبة الطالبة»، والرجل هو «المرغوب فيه»؛ وليس الأمر كذلك في الأدب العذري أو البدوي مثلا، حيث المرأة هي الكائن «المرغوب فيه».
على أنّ ما يعنيني في السياق الذي أنا فيه، أنّ هذا النصّ السردي الذي تمثّلت به، المحكم بنية وحوارا؛ صدى أو تنويع «مرح» على النصّ القرآني، حيث الصوت السردي ليس بالذي نسمعه دائما، بل ربّما نحن نستمع إليه مخالسة؛ وكأنّنا نسترق السمع، فهو متكتّم صامت وكأنّه يطوي سرّا، أو كأنّ شأنه شأن الحرف الذي لا يلفظ، أو هو صوت أخرس ومهما يكن من أمره فهو لا يتلاشى تماما، بل هو صوت يرتدّ على هيئة صدى؛ أشبه ما يكون بحرف اللين أو المدّ الذي يـُمدّ به الصوت. والصدى لا يُرجع سوى هذه الأصوات. وهذا يستدعي من جملة ما يستدعي إعادة تصنيف أدبنا أو تجنيسه في ضوئه، وفي ضوء ما استجدّ من المباحث ومناهج التحليل.
يذكر الطبري بإسناد، أنّ سورة يوسف نزلت على الرسول لمسألة أصحابه إيّاه أن يقصّ عليهم، وينقل عن ابن عباس، قال: قالوا: يا رسول الله، لو قصصتَ علينا؟ قال: فنزلت: نحنُ نقصُّ عليكَ أحسن القـَصَصِ». ونقل أيضا: قالوا يا رسول الله حدثنا ! فأنزل الله: «اللهُ نزّل أحسنَ الحديث» (الزمر: 23 ) ثمّ قالوا: يا رسول الله حدثنا فوق الحديث ودون القرآن! يعنون القصص، فأنزل الله: «نحن نقص عليك أحسن القصص»، فأرادوا الحديث فدلّهم على أحسن الحديث، وأرادوا القصص فدلّهم على أحسن القصص».
ومن حقّنا أن نستخلص من هذه الرواية أنّ النصّ القرآني نصّ جامع يتوزّع على ثلاثة «أجناس» أو «أنواع» تتراتب تفاضليّا: القرآن فالقصص فالحديث. وتنهض لذلك قرينتان في قول الطبري هما: «فوق» وهي ظرف مكان وظرف زمان يدلّ على الزيادة والفضل «هذا فوق ذاك أي أفضل منه» و»دون» وهي نقيض فوق.
إنّ حضور السارد يمكن أن يُكتنهَ من أكثر من زاوية في الملفوظ. من ذلك أنّ الواقعة أو الحادثة ترد في صيغة الماضي. وهي من ثمّة سابقة على فعل القول الذي ينتجها، ويتميّز عنها بذلك، في الآن ذاته؛ إذ يفترض ـ استئناسا بأسباب نزول السورة ـ أنّ كلام السارد المتلفظ لاحق على كلام الشخصيّات المتحاورة. وهذا ممّا يعزّز من وجاهة رأينا في إعادة تصنيف أدبنا القديم، وإعادة ترتيب علاقتنا بالنصّ القرآني؛ دونما تهيّب، إلاّ من العلم. ولو كان في هذا المقال فسحة، لقارنّا بين «القصّة» القرآنيّة، و»القصّة» كما ساقها الطبري، وبيّنّا، أنّ بعض طرائق التلفظ مثل السجع [ الفاصلة القرآنيّة] والاستفهام والتعجّب والنعوت التي يتعذّر إلحاقها بشخصيّة من الشخصيّات، ليست إلاّ إحالات مضمرة على ذاتيّة السارد.
وكذلك الشأن في سمات النصّ الأدائيّة مثل «نغميّته الوجدانيّة» الراجعة إلى المعرفة الحدسيّة في رؤيا يوسف؛ وقد انتظمت في سلسلة من استعارات شعريّة تنتظمها حِجاجيّة سرديّة قد تفيدنا عن قول يوسف ورؤياه أو نبوءته، وربّما عن بنيات دلاليّة في عربيّة القرن السادس والسابع للميلاد. والغاية من ذلك إنّما هي احتواء المخاطـَب احتواء تامّا، فقد لا تكون الرؤيا سوى أداة من أدوات السيطرة عليه، عبر استطلاع الغيب أو التنبؤ بالمستقبل.
فهذه وغيرها أمارات على ذاتيّة السارد، وعلى أنّنا إزاء متلفظ واحد، حتى إن أوهمنا ظاهر النصّ بغير ذلك؛ إذ لا يوسف كان يتكلّم العربيّة ولا يعقوب، ولا كلّ هؤلاء الذين يظهرون على مسرح القصّة، وإنّما هذا من عمل «الذات المتلفّظة» العالمة بلطائف العربيّة، أو القاصّ المتحكّم في «الخطاب المنقول» باصطلاحات اليوم، و»الإخبار عن القول» و»حكاية القول» باصطلاحات القدماء.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى