لينا شدود.. الهجرة بقارب الشعر إلى قارّة نادرة

شريف الشافعى
في وقت تتأرجح فيه الأرض بفعل قذائف الحرب، تختل الموازين كلها، وتنعدم الرؤية، والرؤيا، إلا إذا كانتا بعين ثالثة، لم تُخلق بعد.

هكذا تكون الكتابة، تحت ضغط الشعر، ولا شيء غيره يستحق، إذ مرت الريح، وتركت التاريخ بلا أرض، والأرض بلا تاريخ، وفي مثل هذا الوجود؛ كل الحدود من ألم، والفجر ضباب يوصي بضباب.

في مجموعتها الشعرية “من قلب العالم.. من عالم بلا قلب” (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الإبداع العربي، 2017)، ترصد الشاعرة السورية لينا شدود، لحظة نادرة من اختلال العالم، إذ لا تفسير لشيء في شبكة التساؤلات المعقدة، بينما الإجابة الوحيدة السهلة هي الحرب. القتل مجاني للجميع، رغم أن تكلفته باهظة من الأسلحة والنفقات. وحده الزمن هو الذي يطل على الحرائق، بحريق أوسع، يلمع بشراسة أكبر. تقول الشاعرة:

“في اللحظة التي اختلّ فيها العالم،

وعلى أرضٍ رمّلَها الضباب فيما مضى،

قدح الزمن معجزته..

كانت تلمع بضراوة،

رأيتها بعيني الثالثة”.

ثمة وجود آخر، ربما، على حافة الوجود. هناك أنهار أخرى في موضع ما، ربما، لكنها تظل على لائحة الانتظار، فهي أنهار “لم تعد أسيرة عاداتها، أنهار لا تعرف أنها أنهار”. ماذا على الشاعر إلا أن يخطو في أرض سالبة، منتظرًا معجزة لن تأتي؟ وماذا على الرائي إلا أن “يشهد للمغيب أنه نهاية تتعثّر”؟ إنها “دوامة البوح” العبثية، التي حرك دوائرها في الماء حجرٌ ثقيلٌ اسمه الحقيقة القاسية. تقول:

“من هنا مرت الريح،

وتركت التاريخ بلا أرض.

ماذا بقي منك أيتها الحقيقة؟

أنت الآن عارية.. عارية”

في رحلتها، المنفتحة دائمًا على الهاوية، لا تلتفت الذات الشاعرة إلى الوراء، شأنها شأن الأمواج المندفعة، التي ربما تهدئ من روع الجبال، فيما يخطفها ذلك العالم الجديد إلى وضعيات جديدة لا يمكن وصفها في أغلب الأحوال. في مثل هذا الطقس من الاضطراب الكامل، تبعث الذات الشاعرة رسائلها من قلب العالم، معترفة منذ الكلمة الأولى بأن العالم بلا قلب، لكنها تتمسك حتى آخر لحظة بقدر من الشغف، وبالصاعقة المنقضة، تقول:

“لن تنطفئ عظمة حيرتكَ،

وأنت تصطكُ شغفًا.

هل تنتظر انقضاض الصاعقة،

كي تتخلّص من مشقّة هذا البقاء؟

وحدها الأنهار لا تلتفت إلى الوراء،

وحدها الأنهار في جريانها المندفع،

تهدّئ من روع الجبال”

وبما تحمله الذات من بقايا رغبة جارفة في التمرد، بوصفها الإنساني الطاغي على كينونتها الأنثوية، تمضي الذات في رحلتها دون توقف، على الرغم من توقف كل شيء عدا الموت الذي يتحرك في الاتجاهات كلها، حاصدًا كل ما في طريقه.

هي تعلم علم اليقين أن الرحلة “إلى قارة نادرة” هي رحلة إلى المستحيل، لكن التحرك بحد ذاته قيمة تستحق التجريب، أو بمعنى أدق “التضحية”. لا معنى للنوافذ ولا للأبواب في هذه التجربة سوى “الخروج” الأهوج، غير الآمن بالضرورة، وعلى غير هدى، الذي قد يليه سقوط إثر سقوط، وارتطام عنيف قاس، لكنه قد يكون أهون من الموت الانفرادي في المحبس الكبير الذي كان اسمه الوطن:

“أيتها النوافذ

أيتها الأبواب

ما أجمل الخروج منكِ..

ما أجمل الخروج عليكِ..

لن أفسّر لهم..

لن أفسر لكَ ارتطام النيازك لصالح النبوءة القديمة.

الرهان على قارّة نادرة،

يشبه طمع الغابة بخضرة أكثر حنكة.

أنا وأنتَ تأخّرنا في الخروج من الجلد،

لن نعرف كيف نعود”

في توقيت فارق دائمًا تتحدث الذات الشاعرة، وتأتي بأفعالها الارتجالية حيث يغيب التعقل. هذا التوقيت هو “تمام الدهشة”، إذا جاز التعبير، حيث تشك الشاعرة في كل شيء، وحيث الأصوات في العالم تصل عادة متأخرة، بعد فوات الأوان، فيما رمال تتحرّك، لتعتقل فرحة النجوم، وتتمحور اللغة حول الألم القريب المقيم، وحول الأوجاع المطقطقة على الجدران:

“ثمة غراب ينعق في مكان ما..

في مكان ما، ثمة غراب ينعق،

أذنكَ العاجزة لن تسمعه.

احفري ههنا أيتها اللغة..

الألم قريب/..

من بدّل جهة الريح،

وخلط الأصوات؟

طقطقة الألم على الجدران صارت أعلى”

تتريض الشاعرة، في مثل هذا الوجود الخرب، بكتابة قصائدها المنهكة تحت الأشجار المحترقة، كأنما يمارس شبح تمرينات الرعب في ليل لا صباح له. وبينما أوراق الخريف تملأ الأرض، تبقى طيور على القمم العالية، تنتظر. للكون قلب بارد دائمًا، لا يكترث بأحد، ولا حتى بمعجزة الشفق، المتشكَّك فيها أصلًا:

“كم كانت أشباحنا معذورة في تمريننا على الرعب..

هكذا كانت الخطة

أن نسمم الوقت بضحكاتنا المقيّدة،

وأن نسجن الذاكرة التي تواطأت على مصادر الألم.

ماذا بقي لنا في الأنساغ؟

طيور القمم العالية..

تنتظر”

في الفصل الأول، في الخوف الأول، كان “السقوط في البئر”. المسافة الفاصلة عن القاع لا تكفي للتفكير. إنه الألم غير العادي، المشي إلى الخلف، الذي يمنع دائمًا من “تهجئة الأرواح العالية”. من قلب العالم، من عالم بلا قلب، مرّت الريح ولم تر أحدًا، فلم تكن رؤية الأشياء ممكنة، ولا مجال للذات الشاعرة إلا “الانسحاب بضوئها الشحيح، إلى ليل آخر، يفصلها عن ليلهم”. هكذا يبقى الوقت مراوغًا، وتفرط الشمس في تمنّعها، وفي إرسال ألوان باردة، تشحن الغيظ، ويتساوى الصعود والهبوط:

أحدثك الآن..

من قلب العالم، من عالم بلا قلب،

كل الحدود الآن من ألم،

والفجر ضباب يوصي

بضباب.

لا فرق بين صعود وهبوط.

كخيالات عائمة في الأفق،

نفتش عن كنز اللحظة الفارغة..

عن لغة تمتص شرر اصطدامنا

بهواء قديم…

هل علي أن أختار؟!

سأختار الهجرة من زمن لا يمضي،

زمن احتجز خلفه كل الألق،

وغرس صخوره الغامضة

عند كل منعطف

عند كل خوف”

في تجربة لينا شدود، يغفو العالم تمامًا، على طول الخط، متناسيًا كل من فيه، وما فيه، فيما تدرك طيور الليل وحدها أن الذات الشاعرة اختارت “الناصية اللامعة”، على أمل في أن يصحو العالم الميت..،ولن يصحو! وفي اللحظة الخافقة، القاطعة، ربما “تدور دفّة ما، لتضغط على الجحيم، ليُفرج الموت عن موت أرحم”. (عن بوابة الأهرام)

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى