الاشتياق والتناص القرآني في «همسات الروح والخاطر» لرشيد أمديون

صفاء اللوكي

لا يخلو عمل إبداعي من مرتكزات أساسية يسعى إليها الكاتب بطريقته الخاصة ورؤيته الأدبية، التي يبني من خلالها عمله الأدبي، فكل كاتب له آليات وأدوات يتوخى بها نسج عمله بطريقة فنية تتداخل فيها مكونات الذات الكاتبة ومكونات تقنية الكتابة؛ على اعتبار أن الذات والتقنيات من مكونات الكتابة الأدبية.
انطلاقا من ذلك، تأخذ هذه القراءة جانبين، خاص بذات المؤلف الذي يبرز عن عنصر الاشتياق في كثير من نصوص «انسيابات» مادام الاشتياق عنصرا ذاتيا خاضعا أو منبعا للذات الانسانية. ثم من الناحية التقنية للكتابة فقد نهج الشاعر تقنية التناص وأخص بالذكر في هذا الشق من القراءة التناص القرآني في الانسيابات.
ثيمة الاشتياق في «همسات الروح والخاطر»
«همسات الروح والخاطر» انطلاقا من عنوان الكتاب ومن خلال القراءات المتتالية يتبين أنها تكشف عن ذاتها «الهمسات» التي شملت كلا من همس الرجل والمرأة، كل ما يفيض بالروح والخاطر من شوق وحب وعتب وتعب ورحيل ولقاء وكينونة بالذات، يجده القارئ بين دفتي «الانسيابات».. وما الكتابة إلا بعض أو كلّ ما تختلجه النفس البشرية، ونفس الكاتب خصوصا العالم بحيثيات ما يكتب. افتتح رشيد أمديون كتابه بقصيدة «بداية أشواقي» وكل نفس لا تشتاق لا حس فيها، هذا الشعور الأزلي كان وما زال في قصائد الشعراء ونصوص الكتاب. والاشتياق نابع من الفقد للشيء أو للشخص، فكان التعبير عنه في مجمل قصائده ترنيمة يرتوي بها الشاعر من حرقة الفقد أو تعويذة يرتجي بها لقاءً.
وتتأرجح مقامات «انسيابات» بين الشوق والألفة والعشق والذكرى والوجع والخيبة والغياب واللقاء… إلا أن الشوق يبق متمركزا بين كل هذه الثيمات يقول رشيد في «شوق حارق»:
أشتاقُ في الحضورِ
أشتاقُ في الغياب
أشتاقُ إنْ طيفكِ لطيفي يفارقُ
وفي «أشجان سندبادية» يُظهِر السندباد عن شوقه:
فالسندباد للشوق أبان
حنَّ لعيونٍ كان في خضمّها المجذاف
والملاح…
إذن فالاشتياق يفرض وجوده في الحضور والغياب لدى الشاعر في تجليات حبيبته أو في تجليات المكان أو الزمان المُتغنّى به. والشوق ليس ضروريا أن يُفصح عنه ككلمة أو لفظة، بل يتوارى خلف وصف معين في كثير من نصوص «همسات» نقرأ في القصيدة نفسها:
يرسم السندباد غربتهُ
يختزل ركام الأشجان
يذكر الحبيب
هنا تجلى الشوق من خلال وصف الغربة وذكر الحبيب وكُتَل الأشجان، وهذا دليل على الاشتياق كذلك. ثيمة الشوق في الانسيابات تنّم عن الرغبة في كشف ذاك الحنين، كما نكشف عن أحلامنا وطموحاتنا، تكشف عن وجع معين، وتكشف عن الرغبة في الكتابة.. يتأتى الشوق ثيمة وبؤرة للبحث عن ذاك المجهول سواء كان شخصا أو وطنا، أو أيا كان في دواخلنا وأحلامنا وواقعنا، فالشوق أو الحنين وجعٌ عشوائي لا يستأذن من أحد كما يقال.
في مقام «اتساع الرؤيا وضيق العبارة» وهو المقام الشعري الأخير في الهمسات ينحتُ رشيد أمديون حروفا صوفية تُنقّبُ عن الرّوح وسط الذات، وعن الرّوح وسط العالم، وعن الرّوح وسط العشق بكل تجلياته. يسبح الشاعر في كنه حقيقته وحقيقة شعره الواضحة في تجلياته ومقامات رؤياه وصوفية افتراضه وخلوته وفي اختفائه وومضاته. لا يخلو مقام الشوق في صوفية الشعر كذلك لدى رشيد أمديون، الشيء الذي يؤكد على ضرورة ورغبة في الهمس؛ رغبة في الحكي؛ رغبة في الكتابة للكتابة. ويمكن أن أشير إلى اللغة؛ فالمتمعّن في الانسيابات يلمس انسياب الحرف والمعنى في آنٍ واحد بلغة سلسة ممزوجة بعبق العاشق المتزّن القديم قِدَمَ المشاعر الصّافية التي تبحث عن رضا الحبيب وترتشف نوره في كل كائن.. وفي ذلك يقول رشيد أمديون:
ولأنكِ قمر
(…)
ولأنكِ وردة
(…)
ولأنكِ الشمس
فإني أرتقبُ إشراقتك
(من قصيدة «لأنك حبيبتي»).
ثم ينتقل لقصيدة أخرى يهدي فيها الشاعر لحبيبته البدر والشمس والسماء وعطر الخزامى والكثير من الأشياء حتى ينير لها الحياة قائلا:
أحرقُ عُمْري كيْ أنِيرَ لكِ الحياة قُصوراً
إذن يختار رشيد أمديون تشبيهاته واستعاراته بعناية وكأنها جميعها مأخوذة من الكون بكل ما فيه، كما هي عادة الشعراء القدامى فتارة هذه المكونات هي الحبيبة نفسها، وتارة أخرى يُهدي مكونات هذا الكون للحبيبة ويُصيغها في تشكيل معاصر لبناء القصيدة، هذا التقابل يوحي باندماج الحبيبة مع مكونات هذا الفضاء والعكس صحيح.. فهي الكون والكون هي، إنّه التّماهي الذي يرسمه الشاعر بين الحبيبة والكون.
التناص القرآني في «همسات الروح والخاطر»
يعد التناص في النقد العربي الحديث ترجمة للمصطلح الفرنسي «intertext»هذا التناص صاغته جوليا كريستيفا التي عنت به تفاعل أنظمة أسلوبية يعني تداخل نصوص في نص، أو تشابه نص في نص أو عدة نصوص. وهو من أهم الأساليب النقدية المعاصرة وقد تزايدت أهمية المصطلح في النظريات البنيوية وما بعد البنيوية. وطبعا هناك تعريفات عدة وتقسيمات وعلاقات لمفهوم «التناص» سواء عند النقاد الغربيين أو العرب والمغاربة، وهو ما لسنا بصدده في هذه الورقة. لكن وطبقا لمقتضيات الدراسات المعاصرة التي أصبحت تتجه للدراسات التطبيقية أكثر من النظرية كون هذه الأخيرة متوفرة في كتب لا حصر لها، فإني سأجنح إلى الكشف المباشر عن هذا التناص من خلال تبيانه في قصائد «همسات الروح والخاطر» فمثلا في قصيدة «إرضاء» نقرأ:
إن تطلبي الشّمس
آتيكِ بها قبلَ المَغربِ
تحيل إلى الآية الكريمة من سورة النمل «قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» وهو استثمار للآية الكريمة في تصوير المبتغى الشعري الذي يسعى له الشاعر لتلبية طلب محبوبته (الإتيان بالشمس قبل الغروب) وهو طلب تعجيزي في الفعل الإنساني بطبيعة الحال، لكنه يصبح ممكنا في تصوير الشاعر، خصوصا حين يستدعي نصا قرآنيا كما لاحظنا.
وأنتقلُ إلى قصيدة «منى» التي أدرج فيها الشاعر تناصًّا من سورة البلد في الآية الكريمة: «لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ» استثمرها الشاعر في قوله:
هذا السّهدُ
وهذا الحرفُ،
والقلم وما سطر
ففي الأية الكريمة تكرار لأداة النداء «هذا» والتكرار يفيد التأكيد والتوكيد تماما، كما جاء في استثمار الشاعر للآية الكريمة، فالشاعر يؤكد ويقسم بعشقه وأرقه وحرفه وقلمه وقلبه بأنه ما بلغ المنى من حبيبته.
في قصيدة «لا تقولي ولكن» نقرأ:
والجوى هدّني
على عرشي استوى
يشير المقطع الشعري لاستواء الوجد/ العشق على كُنْهِ الشاعر وهو تناص جميل للآية الكريمة في سورة طه: «الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى». وفي قصيدة «وأنتظر البسمة»، كما جاء في سورة ص «فَقَالَ إِنِّيَ أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ» يصيغ الشاعر عبارته على النحو التالي:
الشمسُ توارت بالحجاب
فأعيديها..
فالشاعر يترجى محبوبته بأن تعيد الشمس بعدما توارت. وهناك تناص مع الآية الكريمة في سورة النجم: «فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى» في قول الشاعر:
أخشاه وقد صار قاب قوسين أو أدنا
هنا الشاعر يخشى لون الليل الدّاجي وقد صار قاب قوسين أو أدنا، يعني أصبح هذا الليل قريبا منه. ثم استدعاء للآية الكريمة في سورة مريم «وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَّاقَطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا» في قول الشاعر في القصيدة نفسها:
وهزّي إليكِ بجذع اليقظة
إذن استثمر الشاعر كل من «سورة ص والنجم ومريم» من القرآن الكريم في تناص مع شعره وفي قصيدة واحدة.
أنتقل إلى قصيدة «تحدث المعنى» وهنا تناص مع الآية الكريمة في «سورة يس»: «إنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ». يقول الشاعر:
فأنا من سمعها يوم قيل لي كنْ
فكنت.
سماع ماذا؟ سماع الشاعر للغة السماء والشمس والبحر من يوم تكوّن (الشاعر).
أما في قصيدة «مقام الرؤيا والمخاطبة» فالتناص الحاصل في هذه القصيدة يعادل تقريبا قصة موسى عليه السلام في القرآن الكريم، يقول الشاعر:
يا رشيد إخلع حيرتكْ
إنّكَ بوادي التلقي
فأوجستُ خيفة..
لا تخف ، أنا صوت القصيد
وما ذاك بيمينك؟»
*
«ألقه يا رشيد» فألقيتُه فإذا المعاني تسعى
*
قال:
«خذه ولا تخفْ
سنشدُّ عضدك به».
إذن كما ذكر عبد الرحيم التدلاوي في قراءة سابقة تشكل قصة موسى عليه السلام نص القصيدة الغائب، أو المضمر. ونبوءة موسى النبي نبوءة إلاهية تخبره بتكليفه لتبليغ الرسالة دون خوف ولا تردد، ونبوءة الشاعر نبوءة شعرية تخبره بضرورة الكتابة دون خوف ولا تردد كذلك. ويمكن أن أحصر بعض التقابلات التي استثمرها الشاعر في صياغة قصيدته كالتالي:
خوف النبي موسى يقابل حيرة الشاعر.
• الواد المقدس «طُوى» يقابله واد التلقي لدى الشاعر.
• خطاب الله مع النبي موسى يقابل خطاب الشعر مع الشاعر.
• عصى موسى تقابل قلم الشاعر.
• تحوّل عصى موسى عليه السلام لحيّةٍ تسعى يقابله تحوّل قلم الشاعر لمعانٍ تسعى.
والاستدعاء نفسه لقصة موسى نجده يتكرر في قصيدة «وأنبئهم» في قول الشاعر:
خلعتُ نعلي
ولمّا نادى المنادي
أوجست خيفة
إن هذه التناصات القرآنية تضفي على الشعر دلالات فنية وجمالية تخدم الصورة الشعرية، وتنقل القارئ من الإيقاع المباشر لإيقاع التخييل، إضافة إلى مجموعة من التناصات الأخرى التي نهجها الشاعر رشيد أمديون في كتابه، والتي استنبطها من الشعر والأدب والتاريخ والأسطورة. ويمكن القول بأنه استثمار جيّد لحقول العلوم الإنسانية التي تُعدّ منبع التفنُّن في الإبداع عامة، ويكتسي بها عمل المبدع حلّة أدبية جميلة ذات أبعاد متعددة بتعدد هذه الحقول المعرفية والفنية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى