«عياش» بطل عبثي في عالم منهار

يسري عبد الله

في روايته «عياش» (دار الساقي)، يكشف أحمد مجدي همام جانباً من دهاليز الصحافة، وعلاقتها العلنية والسريّة بالسلطة، من خلال شخصية بطله عمر عياش. وهو صحافي يتفرغ إلى كتابة التقارير الأمنية عن زملائه في الجريدة التي يعمل فيها، في ظلّ اهتزاز جملة من القيم المهنية والإنسانية في الصحيفة (محل الفعل السردي)، وفي العالم (البنية الاجتماعية)، والسياق الذي تشكل فيه وعيه وطريقته في التعاطي مع الواقع.
ما زال العالم البكر لأحمد مجدي همام حاضراً وبكثافة، وما زالت قدرته المدهشة على تحويل العناوين الكبرى المنتمية إلى سياق يخص حادثة أو واقعة بعينها، فتستحيل هنا إلى معنى دالّ على النص والحياة. ففي مجموعته «الجنتلمان يفضل القضايا الخاسرة» كان بورخيس الذي قرر الانضمام إلى حزب يميني، في ذروة حضور اليسار ومجده، ولما سُئل: لماذا؟، قال: «لأن الجنتلمان يفضل القضايا الخاسرة». وتحولت الجملة إلى عنوان مجموعة همام القصصية. وهنا في «عياش» تبدو جملة بوكوفسكي «هبوني أموالكم أهبكم روحي»، عنواناً للمقطع الأول في الرواية، وهو مقطع مركزي لأنه ينهض مقام الافتتاحية للرواية حيث نرى إحالة إلى الشخصية المركزية فيها (عمر عياش)، أصوله وجذوره وعمله، نزقه وتسكعه، ذكاؤه وعبثيته، سخريته في عالم جاد وجامد.

التماهي والانفصال
تتشكل الرواية من أربعة أقسام مركزية، أولها تقديمة درامية سماها الكاتب «عزف منفرد قبل البداية»، تتلوها ثلاثة أقسام تتقارب نسبياً في المساحة الكمية المأخودة من المتن السردي للرواية، وتبدأ بالقسم الأكبر نسبياً «البداية- تحولات» (65 صفحة)، ثم «فلنمد الخيط على استقامته- الحياة بجرعات كبيرة» (55 صفحة)، ثم «انفجارات- فقاعة ستنفثئ في أية لحظة» (45 صفحة)، وكأننا في اقترابنا من النهايات يخفت الصوت، وتقل المساحة الكمية» (65/ 55/ 45).
يتشكل القسم الأول من الرواية من ستة مقاطع سردية، يعتمد المقطع الأول منها «هبوني أموالكم أهبكم روحي»، على جدل التماهي والانفصال بين الذاتي والموضوعي، بين الخاص والعام، فالراوي هنا ينتمي إلى شيخ العرب همام «فارس هوارة الذي خسر ملكه بعدما هزمه علي بك الكبير وتوفي منفياً عن عاصمة مملكته فرشوط، في العام 1769م لينفرط عقد آل همام»(ص11). وتبدو الإحالات إلى تاريخ شيخ العرب همام موجـزة ومكثفة، وقد أحسن الكاتب في عدم الاستغراق فيها.
وفي «رصيد الأصفار»، يبدو الراوي البطل ممثلاً لحالة إخفاق، يظهر مرتبكاً وتائهاً، محمّلاً باللاشيء: «في غفلة مني فوجئت بانقضاء ثلاث سنوات وأنا أعيش مثل تيس مربوط في ساقية، أشتغل بالنهار، وأصرف فلوسي في الليل، ولا أكتب حرفاً…»(ص 17).
وفي «تسلخات نفسية»، يبدو التوصيف المستخدم ابناً للحياة اليومية بنزوعها الشعبي المشتبك مع الثقافة، التي تشكل لغة خاصة، وتلوح «كيم كارداشيان» التي تؤمن على مؤخرتها بمبلغ 21 مليون دولار، وبيكهام لاعب الكرة الذي يؤمن على جسده بمبلغ مئة مليون جنيه إسترليني، يلوح العالم الاستهلاكي الذي يتعاطى معه السارد البطل عمر عياش بوصفه واقعاً مهيمناً، ومن ثم فهو يسائله من منظور ساخر، ولا يعتقد بإمكان تغييره وإنما يكتفي بالتندر عليه، هذا التندر الذي يلحق بالذات الساردة نفسها حين يسخر الراوي البطل من نفسه ومن مؤخرته الكبيرة.
وفي «ديون قديمة» نرى آلية التشبيهات البلاغية التي تسعى لخلق استعارتها الخاصة من العالم الواقعي: «خطافية يسرَى مثل لكمات تايسون التي تترك ضحاياها بعيون مبيضة، ومفتوحة على السديم».
وفي «عطايا بطة» تلوح أخت الراوي البطل (فاطمة) التي تزوجت من مهندس مصري وسافرت معه إلى أميركا وأصبحت عوناً دائماً لأخيها المرتبك. وفي «شعرة من جلد الخنزير» تهيمن تيمة الانتقام من عجميستا أو الدكتور شريف العجماوي الذي يمعن في التنكيل بعمر عياش الموظف المقموع في شركته الصغيرة.
وتشكل هذه المقاطع الستة التقديمة الدرامية للرواية ومدخلها الأساسي، والتي يجمعها عنوان دال «عزف منفرد قبل البداية… الهروب من عجميستا»، ومن ثم فهي مؤسسة لما بعدها، ولذا يأتي القسم الثاني «البداية/ تحولات»، حيث يلتحق عمر عياش بالعمل في صحيفة مصرية تأخذ لديه توصيفات واقعية مثل الإشارة إلى أمكنة حقيقية. تحتل نورا، صديقة الراوي البطل ورفيقته المخادعة، مساحة معتبرة من المتن السردي، نورا جوهر المأساة وعمقها، ويتداخل منحيان من السرد، أحدهما خبري، والثاني تحليلي في القسم الثاني من الرواية.

تعرية المجتمع
ثمّة تحوّلات عاصفة في حياة السارد البطل في «البداية… تحولاّت»، تنبئ عن عالم على شفا التداعي والانهيار، هكذا يتحوّل عمر عياش إلى كاتب تقارير أمنية عن زملائه في الجريدة، ومن بينهم صديقه محمد كرم. يتفق مع اللواء مدير أمن الجريدة على متابعة كرم المولع بنشاط جماهير الأولتراس، عالم مسكون بالخسّة والتربص يعرّيه الكاتب بسلاسة ومن دون صراخ، محافظاً على المنطق الجمالي للنص. وفي القسم الثالث «فلنمدّ الخيط على استقامته- الحياة بجرعات كبيرة»، يهيمن الواقع الصحافي البائس والعلاقة مع نورا على فضاء السرد، وفي القسم الأخير «انفجارات… فقاعة ستنفثئ في أية لحظة»، نصبح أمام انفجارات تهزّ الراوي البطل يتعلق أحدها بنورا جابر التي يكشف له اللواء أنها على صلة بزميله ماركو عادل، وفي الانفجار الثاني يمتلئ العالم الافتراضي بالتقارير الأمنية التي كتبها عمر عياش ونشرتها هيام الشورى على صفحتها وامتلأت عوالم الفايسبوك بالتعليق عليها في توظيف آخر للغة السردية. وتصبح نورا هي الواشية الجديدة بعمر عياش في مفارقة بالغة الدلالة. وفي الانفجار الثالث «انتقام الرجل الميت» يصبح وجه الصحافي الميت محمد كرم مطارداً لعياش مثلما تصبح معرفة الأب (الحاج كرم) الذي يستقبل عمر كابن له في بلدته بالفيوم دافعاً لمزيد من الألم.
تتعدد مستويات اللغة وأداءاتها المستخدمة في الرواية، فمن السرد السلس، المتدفق، بنزوعه الساخر، ولغته النافذة، إلى السرد المحمل بخطابات أيديولوجية مصنوعة كما في حالة المقال الذي كتبه السارد/ البطل عن الثورة الجزائرية ليحصل على سبعين يورو، إلى اللغة ذات النزوع العامي في مواضع عديدة، والروح الشعبية أحياناً.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى