أوبير حداد يواجه إسرائيل روائياً

أنطوان جوكي

في زمننا الذي يطغى عليه الحقد القاتل والإنطواء على الذات ورفض الآخر المختلف، نحتاج إلى شعراء وروائيين قادرين على ابتكار نشيد عالمٍ آخر تكون فيه الكلمة الأولى للحب القادر وحده على توحيد البشر، مهما كانت هويتهم ودينهم ولون بشرتهم. ولا شك في أن الفرنسي أوبير حداد، ذا الأصول التونسية الجزائرية، هو واحدٌ من هؤلاء. فجميع أعماله الأدبية والشعرية، وخصوصاً «فلسطين» (2007) و «ريح ربيعية» (2010) و «أفيون بوبي» (2011)، تشكّل نشيداً من هذا النوع، وفي الوقت ذاته، صرخةً في وجه الظلم وصمم الأقوياء وتيه الجماهير. وهكذا نتلقّى أيضاً روايته الأحدث «الثلجة الأولى على بونديشيري» (دار زولما، باريس)، كمدوّنة موسيقية جديدة للنشيد نفسه.
بطل الرواية، هوشيا ماينتسيل، هو موسيقي يهودي عجوز فَقَد والديه وأخته الكبرى في معسكرات الموت النازية، قبل أن يستقرّ به القدر في إسرائيل. ولأنه يرفض سياسات الحكومات التي تعاقبت على حكم هذا البلد وجدار الحقد والخزي الذي يختبئ شعبه خلفه، نراه يميل، كل يوم أكثر فأكثر، إلى الصمت لاقتناعه بعبثية «العزف في عالمٍ أصمّ»، إلى أن ينفجر في أحد الأيام، عند نهاية حفلة موسيقية أحياها في القدس، ويصرّح أمام الجمهور: «أنا لم أعد إسرائيلياً ولا أريد أن أكون يهودياً ولا إنساناً ولا أي شيء يدّعي إرثاً ما». تصريح يدفع الجمهور إلى الصفير والصراخ لإسكاته، ويؤدّي إلى تلقّي هوشيا رسائل تهديد وشتائم، وإلى ابتعاد الكثير من معارفه عنه.

مغادرة نهائية
ولا عجب بعد ذلك من اتّخاذه قرار مغادرة إسرائيل نهائياً، ولكن ليس قبل أن يشخّص مرض هذه الدولة وشعبها في مطلع الرواية، قائلاً: «نتجنّب كل ما يُسائل المبادئ «المقدّسة» لهويتنا. تحاصرنا نُصب أخلاقية لمنع الفكر والحياة من اختبار التغيير. شعبٌ متحجِّر يتمترس في ملجأ محصّن ويرفض الإصغاء إلى أي شيء من الروح الحيّة لفلاسفته وشعرائه. علامات الكارثة تنتشر في كل مكان. بدلاً من وضع مستقبل البشرية فوق مصلحتها الآنية، أصبحت إسرائيل عارِضَ انحدار وتقهقُر يتعاظم غرباً وشرقاً».
وحين يتلقى دعوة للمشاركة في مهرجان موسيقي هندي، يغتنم هوشيا الفرصة لتنفيذ قراره، فيتوجّه إلى مدينة شينّي الهندية حيث تستقبله الشابة موتوسواني وترافقه في كل تنقّلاته داخل الهند وتؤدّي دور المترجمة له. وتدريجاً، على وقع مغامراتهما وتأمّلاتهما خلال هذه التنقّلات، تنشأ بينهما علاقة رقيقة نكتشف بفضلها حوادث مؤسّسِة من حياة كل منهما، ونتعمّق في شخصيتيهما الجذّابتين، بموازاة استكشافنا معهما وضع الهند الراهن وثراء تاريخها وثقافاتها وجغرافيتها، وإصغائنا إلى سرديات وأساطير ساحرة.
وفي هذا السياق، نتعرّف إلى أسطورة مملكة «كرانغامور» اليهودية وقصة استقرار اليهود في الهند منذ زمنٍ سحيق، قبل أن يهاجر معظمهم إلى إسرائيل ولا يتبقّى سوى حفنة صغيرة منهم نتعرّف إلى بعض وجوهها داخل محفل أزرق في مدينة كوشين، حيث يقول أحدهم خلال ليلة عاصفة: «يُروى أن اليهود تعرّضوا لاضطهاد مرعب في العالم أجمع، وأن إسرائيل، منذ تأسيسها، لم تعرف سوى الحرب مع جيرانها. هنا، وباستثناء المستعمرين البرتغاليين، لم يؤذِنا أحد. نحن هنود بين الهنود، مثل المسلمين والمسيحيين وأتباع طائفة السيخ. عشنا ببساطة كمواطنين صالحين ولم يعذّبنا أحد. لماذا رحلوا، يهود كوشين ومالابار وكالكوتا وغوا وبومباي؟ ألم تكن متوافرة هنا إمكانات العيش بسعادة؟ لا نعثر أبداً على السعادة بعيداً من دار طفولتنا». موقف يتشاركه هوشيا الذي تحضر عند كل مناسبة ذكريات طفولته السعيدة في مدينة لودز البولونية، على رغم ظروف حياة عائلته داخل الغيتو اليهودي فيها.
وإلى موطن الطفولة، يضيف حدّاد -كمصدر للسعادة والأمل في روايته- اختلاط اللغات في زمن السلام، «الذي يشكّل أجمل موسيقى». وليس مصادفةً اختياره الهند إطاراً لها، إذ يشكّل هذا البلد جغرافيا مثالية لذلك الاختلاط ليس فقط بين اللغات، بل بين الطوائف والذاكرات أيضاً، وبين الموسيقى والكتابة المتأتّيتين من آفاق مختلفة. وبالتالي، لا تنبع مشكلات الإنسان، في نظره، من تنوّع اللغات والثقافات، بل من الجدران التي تعزلها الواحدة عن الأخرى. وهذا ما تعبّر عنه شخصية الموسيقي الهندي ناندي ـ وهو شاب أتى إلى القدس بمنحة دراسية فعومِل كيهودي من الدرجة الثانية بسبب لون بشرته، قبل أن يلاحظ أن في إسرائيل «نظام طبقات أكثر تعقيداً من ذلك المتواجد في الهند» لأن «المنبوذين يبلغون ربع سكان هذه الدولة».

أصوات العالم
في نهاية الرواية، تنصح موتوسوامي هوشيا بالعودة من حيث أتى، مبرّرةً نصيحتها بمحبتها له وبقولها إن أولئك الذين يبقون بعيدين عن ديارهم يشيّدون في النهاية أساطير يكررونها إلى ما لا نهاية خوفاً من نسيان مَن هم، وينتهي بهم الأمر ضائعين.
ولكن هذا ليس رأي هوشيا الذي يرى أننا «ننوجد من خلال المنفى والنزوح. مَن ينسى ذلك يفقد ذاكرته. أعتقد أن كثيرين فقدوها بسعيهم إلى تملّك حلمهم، وفقدوا الأمل معها». ولا شك في أن المقصود بهذا القول هم أولاً اليهود الذين غادروا أوطانهم للاستقرار في إسرائيل وظنّوا أنهم بذلك يحققون حلمهم. من هنا يأس هوشيا على طول النص، يأسٌ عميق لكنه لا يحول دون سماعه أصوات العالم، أينما حلّ. أصوات تبلغ أذنيه على شكل موسيقى مألوفة وتردّه في كل مرّة إلى الحياة مهما بلغ حدّ قنوطه وضياعه.
باختصار، رواية على شكل سفرٍ خارقٍ لا يدوم «ألف ليلة وليلة»، لكنه يستحضر هذه الرائعة الأدبية بمناخه وجغرافيته الحسّية وأساطيره الساحرة وقصصه التي تتوالد بعضها من بعض داخل القصة. ومن اجل كتابتها، شحذ حداد لغة غنائية مكثّفة ومشحونة بأحاسيس وانطباعات تمنعنا أحياناً من تمييز مكان تواجدنا أو ما نراه، وتبدو بالتالي مثل «ثلج مدينة بونديشيري» المبلبِل وغير المتوقّع. لغة نستسلم بنشوةٍ لصورها واستعاراتها الغزيرة، وتدفعنا برقّة مؤثّرة إلى مرافقة هوشيا وموتوسوامي في رحلتهما المسارّية، وإلى مشاركتهما أفراحهما وألمهما.
طبعاً، لا يغيب العنف عن هذا العمل الرائع، لكنّ نشيد المحبة والأمل يرتفع في أجوائه بلا انقطاع، تارةً على وقع الموسيقى الكارناتاكية الهندية، وتارةً على وقع موسيقى «كليزمير» الييديّة، مردّداً على مسمعنا: «الحقد انتحار. نحن روحٌ واحدة، نشيدُ مستقبلٍ واحد».

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى