«شربك» يعرض قصصا فنية من حيفا إلى برلين عن حب الأمكنة والنفور منها

رشا حلوة

كان ذلك مساء السبت، الثاني والعشرين من نيسان/ أبريل 2017 في برلين. خرائط غوغل تقول لي بعيدة مسافة 20 دقيقة عبر المترو من موقعي إلى المبنى الذي يضم ويفتتح معرض مجموعة «شربك» الذي يحمل اسم «تنافر». معرض لمجموعة من الفنانين الفلسطينيين، من حقل الفنون البصرية، القادمين من حيفا، الذي يستمر لغاية 22 أيار/ مايو 2017.
المبنى يبدو كأي مبنى من الخارج، لكن فور الدخول إليه، تتعرف إلى مبنى قديم نسبيا، مليء بملصقات إعلانية عن معارض لفنون بصرية. ملصق معرض مجموعة «شربك» يأخذني إلى أحد المباني، من ثم إلى الطابق الثالث منه، هناك، ألتقي على الفور بالفنانين المشاركين في المعرض: حنا حزان، هلال جبارين، ربى سلامة، جونا سليمان، سيكو طاطور، تامر قيس وهيثم حداد. كما التقيت أيضًا بقيمات المعرض، كل من الفلسطينية لينا منصور والألمانية كاثرين آرند.

من نقش عملات نقدية إلى نقش محتوى بصري

المبنى الذي يحتضن المعرض ومعارض أخرى يحمل الاسم ‘Alte Münze’، أي «عُملة قديمة»، وهو مبنى استُخدم لمدة 70 عامًا كمصنع لنقش العملات النقدية التالية: الرايخ مارك، مارك ألمانية الشرقية، المارك الألماني واليورو. اليوم، يُستخدم المبنى كمساحة لاحتضان نشاطات ثقافية متنوعة، بما في ذلك يُستخدم كمساحة للتصوير السينمائي أو الفوتوغرافي. أحد طوابق المبنى، الذي يُقام فيه معرض مجموعة «شربك» الفنية، يحمل اسم غاليري 2OG، وهو فضاء ثقافي مخصص للمشهد الثقافي والفني المستقل في وسط برلين، تأسس على يد مجموعة Spreewerkstätten كفضاء يرغب بالحفاظ على الحرية الثقافية للفنانين في عصر ما بعد الحداثة، وعلى تمكين إنتاج فني وثقافي حر، من خلال إنتاج فضاء عمل خاص وعرض فرص مستقلة عن أي شكل من أشكال الاستخدام التجاري.

شربك وتنافر

جاءت فكرة تأسيس مجموعة «شربك» من قبل لينا منصور وكاثرين آرند، وهما صديقتان، الأولى تعيش في حيفا والثانية في برلين. في حديث خاص مع لينا منصور حول المجموعة قالت: «أردنا أن نؤسس مجموعة تضم فنانين يعانون من قلة أماكن العرض والفضاءات البصرية، وهي محدودة في مدينة حيفا، كما أنها محدودة للمضمون البصري الذي يقدمه الفنانون في المجموعة، كإنتاج مميز ومختلف عن النمطي في المشهد الفني في فلسطين».
أقيم المعرض الأول لمجموعة «شربك» في برلين خلال شهر تموز/ يوليو 2016، ومن ثم في حيفا، في غاليري الفنان عبد عابدي في حي وادي النسناس الحيفاوي، والمعرض الذي يحمل ثيمة «تنافر» هو الثالث للمجموعة، يشارك فيه أيضًا فنانون لأول مرة في معرض خارج فلسطين.
يحمل المعرض الثالث موضوع «التنافر»، باعتباره الشعور الفردي والجماعي (للمجموعة) الذي يعيشونه في الحياة اليومية، سواءً للفنانين كأفراد أو جماعة. هذا الشعور تُرجم إلى مواد فنية بصرية في المعرض، من خلال الرسم، الفيديو، التصوير الفوتوغرافي، الأصوات، التصميم الغرافيكي والأعمال التركيبية بوسائط متنوعة. حول موضوع المعرض، تضيف لينا منصور: «جاء الموضوع من خلال المواد البصرية التي أُنتجت بناءً على ما يرونه ويشعرون به في الحياة اليومية، تُظهر المواد التنافر في المكان في ظل تسويقه السياسي على أنه طوباويا». هي أيضًا مواد بصرية تشكل الحياة المركبة عاطفيًا مع المكان/ حيفا، المكان الذي يضم «جمالا» وابتذالا» في الوقت نفسه، حسب النصوص التعريفية للمجموعة، بالإضافة إلى ذلك، هو ملل واشمئزاز أفراد المجموعة من أي «تسويق إيجابي» فقط للمكان/ لحيفا، أو للأمكنة عمومًا، والابتعاد عن حقيقة ما يعيشه المكان وناسه يوميًا، هو الارتباط والانقطاع عن المكان، في آنٍ.

الأعمال الفنية ومصادرة بعضها

يستقبل المعرض زائريه بفيديو بُث في «الكوريدور» المؤدي للغاليري، وهو فيديو لكل من جونا سليمان وهلال جبارين، وعندما يصل الزائر إلى الغرفة الأولى للغاليري، يلتقي بالعمل الفني لهيثم حداد، بعنوان «أهلًا وسهلًا بعالمه الخرائي»، وهو عمل فني تركيبي، فيه رسم أيضًا، ويرتكز على كونه تفاعليا مع الجمهور: الغرفة مليئة باللوحات والأوراق التي كُتبت عليها جمل بالعربية من وحي الحياة المحلية للفلسطيني ابن حيفا (في هذا السياق)، واللوحات والأوراق مليئة بالألوان «السعيدة» البعيدة عن مضمون عنوان الغرفة، أو الجمل التي كُتبت على الأوراق، وبالتالي، هي بمثابة تجربة ممتعة لكل من يزور الغرفة (من غير المتحدثين بالعربية) ويتفاعل مع الكرسي والأكياس الملونة، لكنه لن يعيش التجربة بأكملها إن لم يفهم الكلمات المكتوبة.
عند مدخل الغرفة الثانية نجد العمل الفني لربى سلامة بعنوان XenaNinja، وهو بمثابة رسم لنقاب امرأة وُضع عند زاوية حائط، عيناها بمثابة مقطع فيديو مصور لعيني امرأة، وهو الشيء الوحيد المتحرك في العمل. في حديث مع ربى سلامة، قالت: «العمل هو تركيبي وأسلوبه بالمجمل يعتمد السخرية السوداء، سواء من الإسلاموفوبيا، وكذلك من الواقع الذي يعيشه المسلم في العالم، وفي الوقت نفسه لا من صوت للمسلم غير المتدين أو العلماني أو الليبرالي. العمل هو ردة فعل أكثر مما هو فعل. النقاب يمثل العيون التي ترى كل شيء، ولا تُرى، هنالك شيء قوي بالأمر، على الرغم من رؤيتي النقدية له، لكنه يحمل قوة ما أيضًا». أمام رسمة نقاب المرأة، وُضعت قلوب صُنعت من قوالب مادة الجيلي، هذه القلوب كانت من المفترض أن تكون على أشكال كلاشينكوف من الجيلي أيضًا، إلا أنه تمت مصادرتها في مطار تل أبيب. حول هذا تقول ربى: «صنعت هذه القوالب خصيصًا للعمل، كجزء من الروح الساخرة التي يحملها، فتربط الميديا العالمية كثيرًا ما بين الكلاشينكوف والعالم الإسلامي. وفي المطار، وفي الطريق إلى برلين، كنت أحمل قوالب جيلي الكلاشينكوف داخل كيس بلاستيكي، ولم أضعها في الحقيبة كي لا تتكسر القوالب، إلا أنه تمت مصادرة الكيس في المطار، لربما كان على العمل أن يمر بهذه التجربة السياسية، كنموذج صغير لقصتنا المستمرة».
في الغرفة نفسها التي عُرض فيها عمل ربى سلامة، عُرض أيضًا العمل الفني لحنا حزان، وهو عبارة عن مجموعة تصميمات غرافيكية، بعنوان «عالم القمامة الرائع»، التي من خلالها ينقل حنا حزان رؤيته عن العالم الرأسمالي غير المرغوب فيه اليوم، ينقلها عبر تصميمات مركبة من مواد وصور وتصميمات ورقية أو رقمية، منها مواد بصرية بورنوغرافية، من خلال إعادة تركيبها من جديد بشكل لا يشبه الهيئة الأولى التي قُدمت فيها هذه المواد، حيث تعطيها مقولة جديدة تمامًا. وأنت تتأمل تصميمات حنا، يرتفع صوت الموسيقى المقبل من إحدى الغرف، هناك يجد الزائر مصعدين متوقفين، في كل واحد منهما وُضعت آلتا غرامافون، وهو بمثابة العمل الفني الموسيقي ومتعدد الوسائط لتامر قيس بعنوان Middle East Shraq. يحمل العمل قصة تامر الشخصية الذي يعمل مؤخرًا على تجميع مواد بصرية وصوتية عربية قديمة، ومع مرور الوقت، وجد نفسه يعمل على أرشفة موسيقى كلاسيكية عربية، كجزء من خوف ذاتي على أن تضيع هذه الكنوز الصوتية للأبد في ظل الواقع السياسي المتغير باستمرار في الشرق الأوسط. هذه الرغبة بتجميع أرشيف موسيقي عربي قديم، اصطدم دومًا بالواقع الجيوسياسي الذي يعيشه تامر، كما كل الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني: الحدود المغلقة بين فلسطين والعالم العربي، وبالتالي انحصار سيرورة البحث في المكان الجغرافي عن هذه المواد، فضلًا عن الاهتمام المتزايد للغرب ولإسرائيل بالموسيقى والثقافة العربية وأهميتها، والاستحواذ على أرشيفها. يجمع العمل بين تسجيلات صوتية من مواد موسيقية وغنائية عربية قديمة، وبين مواد صوتية إلكترونية، دُمجت معا بهدف»تخريب» المادة الصوتية، حيث لا ينتج عن هذا الدمج إلا الضجة. وبذلك يسعى تامر إلى إعادة النظر بفكرة استعادة الثقافة العربية، من خلال إخراج الموسيقى من سياقها السياسي والثقافي، حيث يرى تامر أن تجربته بالانشغال مع التاريخ، والنفور منه، في وقت تمسكه فيه أيضًا، ما يبقى من هذه المعادلة هو الحنين إلى الماضي، لا غير.
بجانب المصعدين، تُعرض صور سيكو طاطور ضمن عمله بعنوان «هم»، وهو عبارة عن صور فوتوغرافية ورسومات. من خلال هذه الأعمال، يعكس طاطور حياته بين مدينتين؛ القدس وحيفا، حيث يدمج ما بين الوسائط التي يستخدمها: من رسم وصور بنقد الواقع الذي يراه بعينيه يوميًا، بما في ذلك الأفكار المسبقة المفروضة على الهويات الفردية والجماعية. في الغرفة الأخيرة، عُرض العمل الفني لكل من جونا سليمان، هلال جبارين وحنا حزان، بعنوان Accidental Exports، وهو عبارة عن عمل يجمع ما بين الفيديو آرت، الأصوات والوسائط متعددة، يرتكز على مواد بصرية قديمة وعائلية، لكنها تُخرَج من سياقها وتوضع في قالب بصري بديل ومختلف عن شكلها الأول. يضع العمل المواد الأرشيفية في قالب شبيه بالخيال العلمي، أو بقالب وسائط فنية حديثة، فتغيب قيمتها الوثائقية في هذه الحالة، وتصبح مادة بصرية جديدة تمامًا تحمل مقولة مختلفة عما كانت عليه.

الوجه الآخر للمدينة

وجود معرض لفنانين فلسطينيين من حيفا في برلين، هو أمر خاص وجميل بحد ذاته، يحمل مقولات عديدة، منها سياسية وثقافية بالطبع، خاصة أن مجموعة «شربك»، مثل مجموعات ثقافية فلسطينية عديدة في حيفا، تتخذ لها مسار الإنتاج الفني المستقل، رافضة أي إملاءات سياسية من أحد. وهذا المعرض هو قصة من قصص المشهد الثقافي الفلسطيني من الداخل، الذي وجد من خلال العاملين في هذا القطاع طريقه للوصول إلى الناس، وحمل صورة إضافية من صور حياة الفلسطينيين في فلسطين، وفي حيفا وغيرها من المدن الفلسطينية، هي صور ذاتية لأفراد، وكيف يرى كل منهم المكان الذي يعيش فيه. المعرض بكافة مواده وإنتاجاته صادم، ويضع الزائر في مواجهة مع جانب أو جوانب أخرى من المكان/ حيفا، الذي رُسم بعيون أفراد/ الفنانين المشاركين في المعرض. وبقدر ما يحمل من مقولات نقدية كثيرة، تجاه جهات عديدة، فهو يحمل أيضًا الحنين المبطن بالخوف، الوجع المبطن بالألوان، والأهم، يحمل علاقة الحب والكره مع المكان، يُسلط الضوء على مشاعر طبيعية (من نفور وقرف) في واقع يقدس باستمرار جمالية ورومانسية المكان، رغم كل الظروف السيئة والصعبة التي عاشها وما زال يعيشها.

حيفا وبرلين والمطار بينهما

لربما هنالك سكة حديد وهمية تمتد مؤخرًا بين حيفا وبرلين، وفي الوقت نفسه بين برلين ومدن عديدة يحضر الإنتاج الثقافي فيها بقوة، خاصة المستقل منه. برلين، مدينة حاضنة لثقافات عديدة في العالم، في سياقاتها السياسية والتاريخية المتنوعة والمختلفة، وهي في الوقت نفسه مانحة لفضاءات ممارسة هذه الثقافات. الثقافة العربية، بتنوعها الداخلي، هي جزء من هذا المشهد، وغالبًا للفلسطيني ابن الداخل الفلسطيني، الذي مُنع عنه الالتقاء جسديًا بالمشهد الثقافي في العالم العربي، تُشكل برلين بالنسبة له هذا الملجأ. معرض لفنانين فلسطينيين من حيفا يحضره جمهور من كل مناطق العالم، بما في ذلك السوري والتونسي واليمني والمصري، على كامل طبيعته كمشهد، هو ليس طبيعيًا في حياتنا اليوم، لكن برلين تتيح هذه الإمكانية، وتمنح انكشافًا على الثقافات بعيون قريبة أكثر.
حول هذا تقول لينا منصور: «هنالك أيضًا نوع من حرية التعبير التي تمنحه برلين، وهذا أمر مهم. تفاجأنا من كم الجمهور الذي وصل إلى المعرض، من مخــــتلف مناطق العالم، فبـــرلين تمنح تواصلًا سهلًا ومريحًا مع أوروبا والعالم أيضًا، بما في ذلك انكشاف دولي. كل مراحل المعرض كانت بمثابة تحــــد على مستويات عديدة، أهمها المطار، من مصادرة مــــواد لعمل فني وتحقيقات مر بها بعض الفنانين، بسبب أعمالهم التي حملوها معهم إلى برلين.
كل هذه التفاصيل هي جزء من المعرض، وتجربة الأفراد فيه، بما يحمله من رسالة سياسية، وقصة إضافية من قصصنا».

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى