إيفغيني يفتوشنكو… تاريخ من الشعر والجرأة

هاريسون إيفانز ساليزبوري

ت: صالح الرزوق

لدي ثلاثة ملفات دسمة في مجلد يحمل اسم إيفغيني إيفتوشنكو. وهي مدسوسة بين مجلد يحمل اسم إي بي وايت وآخر يحمل اسم أندريه فوزينسكي. وهذه الملفات مزدحمة بالمعلومات عن مقالات ورسائل ليفتوشنكو، مع ملاحظاتي الشخصية. كل شيء موجود ليفتوشنكو نفسه، ولا توجد طريقة لضم هذا الرجل إلى ملف أو أسره بكلمات على ورق. لقد تعرفت على جينيا منذ عام 1959 حينما كان كل شيء يغلي في روسيا خروتشوف، وكان هو وفوزينسكي وبيللي أحمادولينا يتلون أشعارهم أمام الجمهور الذي يبلغ تعداده بين 10 أو 20 ألفا، وربما أكثر، وذلك في ساحة ماياكوفسكي، وهو مشهد لم يكن عاديا، ولم يتكرر منذ تلك الفترة. منذ تلك الأيام بالكاد تجد بقعة على الأرض لم يدخل إليها يفتوشينكو، ليلقي أشعاره ذات النمط الدراماتيكي الذي يحمل ملامح الشعر الروسي التقليدي، لقد كان يحرك عاصفة في كل مكان يحط به تقريبا، كما فعل من قبل ربع قرن في مسقط رأسه. وفي مجموعته «تقريبا في النهاية» يخبرنا أنه حينما كان طفلا كان يخاف من الألم الفيزيائي. ولو أن هذا صحيح فقد كان في حياة يغلب عليها الرغبة في ركوب المخاطر، سواء في موطنه أو في الخارج، وهو ما لم يقدم عليه غير عدد قليل من الشعراء.
كان هناك دائما اضطراب، ولا سيما في الخارج، حيث أنه يصعب الفصل بين يفتوشنكو السياسي وإيفتوشنكو الشاعر. وحينما نقرأ آخر أعمال إيفتوشنكو، يصبح السبب الدافع لهذا الاضطراب واضحا بسهولة. إيفتوشنكو رجل لديه قناعات قوية عن كل شيء- كل شيء في بلده، وكل شيء يراه في العالم، فالعاطفة تتدفق مثل الدم في عروقه وتتدفق في الكلمات التي يستخدمها والموضوعات التي تجذبه. لم يكن محايدا أبدا منذ أيام تنقله على طرقات سيبيريا الشاسعة في الحرب العالمية الثانية. إذا كان يفتوشنكو يبدو للبعض سياسيا أكثر مما تتوقعه من شاعر، ربما يكون الخطأ ناجما عن توقعاتنا، وليس بسبب التقاليد المعروفة. لقد أخذ الشعراء دائما طرفا في الجدل السائد. وهذا ينسحب كذلك على الشعراء الأمريكيين منذ البواكير وحتى ظهور لونغفيلو وويتمان، ثم حتى ولادة نجم روبيرت لويل. لم يشك أحد بالآراء السياسية لروبيرت بين وارين، وشعراء منتصف القرن التاسع عشر في إنكلترا الذين كانوا في الخط الأمامي للدفاع عن الحريات في إيطاليا واليونان. وبالتأكيد، أهم شعراء روسيا هاجموا علنا شرور القياصرة ولاحقا رفعوا أصواتهم لينادوا بالثورة. بالنسبة لي أنا أنظر إلى يفتوشنكو على أنه شاعر يحمل تقاليد اللغة الروسية العريقة والجريئة. فهو أول من هاجم ستالين ولا يزال ينتقده باستمرار، ودائما يطعن بمخاطر عودة الستالينية وإحيائها. وأيضا كان أول من انتقد بابي يار والمعاداة للسامية، ولم يقلع عن هذا الخط في حياته. وهاجم الرقابة والضغط على كتاب روسيا قبل أن يتحولوا إلى دعاية سياسية تتلقى التعليمات من الخارج.
وانتقد إيفتوشنكو الرئيس نيكيتا خروتشوف بسبب قمعه للفنان إرنسيت نيزفيستني ومن كان معه من الفنانين الذين يمثلون الموجة السوفييتية الشابة. وقبل أيام من وفاته استدعى خروتشوف الشاعر إيفتوشنكو إلى سرير مرضه واعتذر له. وقاد إيفتوشنكو وحليفه فوزينسكي حملة تحض نظام غورباتشوف على منح الكتاب حريات أوسع، ولنشر الأعمال العظيمة الممنوعة، ومنها (الدكتور زيفاغو) لباسترناك، وأشعار آنا أخماتوفا وماندلشتام. هذا لا يعني أن سياسة إيفتوشنكو بلا أخطاء- من منا بلا أخطاء؟. إنما في عالم صعب اختار أن يقضي معظم أوقاته في معسكر السياسة الصحيحة. ولا يمكننا أن نقول إن كتابته بلا شاعرية. فمن ناحية إن إحساسنا به يتأثر بمصاعب الترجمة. إنه شاعر روسي نقي وصوره ذات رنة أصيلة مثل الفولاذ حينما تكون الحرارة في سيبيريا تحت الصفر. إن أسلوبه صعب على التحويل إلى لغة أخرى. وغالبا تكون أشعاره حادة وتنطوي على التحدي. ولكن الخط الشعري موجود. بينما الذوق الأمريكي يفضل كلاما يفرط بالمناورة، إنه أكثر غموضا، وصوفية، وأحيانا غير محسوس. لكن إيفتوشنكو دائما محسوس. فهو حر في أوهامه الشعرية. ومع ذلك نفهم ماذا يقول دون الحاجة لقراءة ثانية. وتجد في طبيعته الكثير من ويتمان وليس باوند. الكثير جدا. وفي مجموعته (تقريبا في النهاية) يلجأ إيفتوشنكو لمزيد من التجربة الإبداعية – بدمج النثر والشعر وهو ما يبدو لي شكلا جديدا، وجذابا وشديد التأثير. إنها تمنح القوة والكتلة لشعريته، وتعطي العاطفة واللون لنثره. هنا يوجد تسرع في المشاعر، وهي دفاقة مثل أي شيء آخر كتبه إيفتوشنكو. فالكلمات، والصور، وصيحات الغضب والتعجب تنطلق وتعلو من المكان مع توغل الطبيعة الروسية بالفصل الموحل، حينما تدنو أيام الربيع القليلة وتذوب الثلوج. وبالاعتماد على الرؤية السينمائية لمتابعة حياته من الداخل، تبدو رحلاته (و لا سيما إلى الدكتاتوريات الدموية في أمريكا اللاتينية)، والتي تجدها خلال طفولته، كأنها استثمار يضفي على شعريته عاطفة مؤثرة، وبقوة واندفاع لا حدود لهما.
فلسفيا، هذه المجموعة، هي تطور مدهش من يفتوشنكو، فقد وصل بها إلى شهرة عالمية. فيها عموميات تخص البشرية وترفع من مستوى أفكاره فوق حدود الاندفاع القومي الذي يغلب سابقا على شعره. فغضبه ضد الظلم بلا كوابح ، سواء كان في كايب تاون أو نيويورك أو موسكو.. وفكرة الله والدين تتطور بطريقة فطرية وتخرج من بين شفتيه بلا تصنع. إنه مؤمن ولكن بإله كوني وبإنسان كوني. ومن الواضح أن جذور قصائد (تقريبا عند النهاية) وفيلمه التجريبي (مدرسة الأطفال) متعاضدة. فالعناصر الأتوبوغرافية من أيام الطفولة تتشابه مع العديد من تلك الحلقات التي تجدها في القصيدة النثرية وتخدم هدفا واحدا: وهو توحيد وتماسك البنية. ومن عدة وجهات نظر إن (تقريبا عند النهاية) هي نموذج رئيسي ومثالي عن التجريب الأدبي والفلسفي الذي جسده أبطال الانفجار الشعري في أيام خروتشوف، ورغب باستمراريته رموز عصر غورباتشوف. هذه المجموعة، بطريقتها الخاصة، ترقى لمستوى أفعاله الشجاعة حينما تعرض للطرد من الساحة العامة على يد شباب أشقياء في مينيسوتا عام 1972، أو حينما وقف بهدوء أمام قنبلة صوتية على عتبات كاتدرائية سانت جون المقدس بعد أن قاطعت قراءة له في شتاء عام 1986. سواء كان الخطر فيزيائيا أو أدبيا، يفتوشنكو يواجه، مهما كانت هذه المخاطر مباشرة. لكنه إنسان عاطفي بلا منازع كما تؤكد لنا باقة قصائده الجريئة.
(1908- 1993) Harrison Evans Salisbury : صحافي أمريكي مولود في مينيسوتا. درس في جامعة الولاية. وعمل كمراسل للنيويورك تايمز من موسكو بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى