نترجم الرواية لنكتشف أنفسنا ونكتشف العالم

محمد ناصر المولهي

نبدأ حديثنا مع عليمي عن رواية بوهوميل هرابال “عزلة صاخبة جدا” التي نشرت منذ أيام عن منشورات المتوسط وأطلت على القارئ العربي لأول مرة هذه الأيام من خلال معرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورته السابعة والعشرين. إذ يعتبرها مترجمها رواية غيّرت الكثير من عالم الرواية، ليس في التشيك فقط، بل في أوروبا عامّة، لأنّها قطعت مع مقولة الشكل والبناء الجاهزَيْن في الرّواية.
صناعة السلاح

يقول منير عليمي “هذه الرواية بمثابة تجربة جديدة، كانت عبارة عن تحدّ بالنّسبة إلى بوهوميل هرابال كي يجعل من اللغة الشّعرية أساسا لعمل سردي، وتلك هي قوة الرّواية التي أرّخت لفترة عصيبة من تاريخ التّشيك خاصّة وتاريخ أوروبّا عامّة، بأسلوب نجح في صياغة صورة جديدة ومختلفة عمّا نسمّيه اليوم الواقعيّة السحريّة في الرّواية”.

لدى ضيفنا عدد من الترجمات الشعرية، التي عمل فيها على أشعار عالمية مختلفة ومجهولة بالنسبة إلى القارئ العربي، لكنه اختار اقتحام عالم النشر برواية، نسأله هنا عن سبب اختياره لهذه الرواية تحديدا، وإن كان ذلك تأكيدا لميل سوق النشر إلى الروايات وتفضيلها على الشعر، ليجيبنا “نحنُ نطالع دائما كي نصطدم بعالم غير عالمنا، وكلّما عثرنا على عالم مخالفٍ حملنا أنفسنا وسعينا إلى الإقامة فيه. لا وسيلة للإقامة في هذا العالم غير التّرجمة.

قرأت عمل بوهوميل هرابال ووجدتُ نفسي أغوص داخل عملٍ روائي يحمل بين صفحاته عوالم شعرية مغايرة تماما لما كنتُ أحمله من تصوّرات حول الشّعر والرواية عموما. أستطيعُ القولَ إن رواية ‘عزلة صاخبة جدا‘ أعادت الصّخب إلى كلّ قراءاتي السّابقة ودفعتني إلى إجراء محاكمة عادلة لرؤيتي إلى الشّعر والسّرد والفلسفة والفكر بأبعادها المختلفة، ولهذا السّبب أقدمتُ على ترجمة هذا الكتاب”.

يرى عليمي أن ترجمة الرّواية باتت عمليّة ضروريّة الآن كي نتعرّف على أنفسنا وفق نظرة الآخر الرّوائي. ومن ناحية أخرى يعتقد أن الرّواية مهدّدة دائما لأنها تقف دوما وقفة المتّهم والقاضي في آن واحد وذلك لما تشهدهُ من تغيرات ونظريات جديدة تتصارع فيما بينها. أمّا الشعر فهو، في رأيه، كائنٌ أرحب يعيشُ داخل الكون ويمتدّ إلى خارجهِ وبالتّالي هو مسيّر كلّ شيء ولا يقفُ أي جنس أدبي بمعزلٍ عنه، ومسألة نشره مرتبطة بالتّرجمة في حدّ ذاتها، فهي عملية صعبة جدا وعبارة عن كفاح طويل من أجل قذف روح جديدة في نصّ بجسدٍ جديد وهواء صالح للعيش. وبتحقق هذه الرّوح يتحقق الشعر الذي نركض خلفهُ بأكثر من لغة ولا ننال منهُ إلا القليل.

عن الترجمة وعلاقته بها يقول الشاعر والمترجم التونسي “الترجمة عملية قراءة بعينٍ ثالثة. ترجمتُ الكثير من القصائد، ولكن عندما فكّرتُ في محاولة نشرها لم أجد رابطا بين كلّ تلك النّصوص سوى أنها تنتمي إلى الشّعر في معناه الواسع. ترجمة الشّعر تثبتُ أنّ أخطر شيء في هذا العالم هو الكلمات، فهي محرّك كلّ شيء. أن تترجم نصّا شعريا فذلك أشبه بصناعة سلاح جديدٍ وذلك السّلاح نفسه سيكون في يد أكثر من جندي؛ فالمترجمُ هنا هو المسيّر لحرب أبديّة يقودها الشّعر في قلوب شعراء وكتّاب وروائيين وعليهِ هنا أن يكون عادلا. الترّجمة تظلّ عملية قراءة بالنّسبة إلي وأحيانا تتحوّل إلى عملية بحث عن مدى قدرة نصّ ما على العيش داخل بيئة غير بيئته”.

المترجم كغيره من المبدعين في العالم العربي يواجه الكثير من الإشكاليات، وهنا يلفت عليمي إلى أن المترجم مثلهُ مثل كلّ شاعر أو روائي يظلّ فريسة وطنهِ ونخبه البائسة التي تريدُ السّيطرة على كلّ شيء. فهو يعاني من ضيق مجالات التّعامل إضافة إلى غياب المؤسسات التي تدعم الترجمة والمترجمين؛ إذ الترجمة آخر اهتمامات وزارة الثقافة في تونس مثلا، وآخر اهتمامات الجامعات التي لا تولي هذه المسألة اهتماما، كما يقول.
الشعر ضد الاحتضار

نتطرق مع منير عليمي إلى تجربته كشاعر خيّر عدم نشر مخطوطاته، والاكتفاء بنشر نصوص هنا وهناك، ليقول “لا بدّ من الإشارة إلى كوني أنتمي إلى جيل جديدٍ من الشعراء الذين حاولوا جاهدين أن يمسحوا الغبار عن المشهد الأدبي التونسي الممزق والذي تتحكم فيه مؤسسات رسمية مختلفة كانت وما زالت من أكبر المدافعين عن سوق الرّداءة الأدبيّة”.
ويتابع “الشعر تجربة تولدُ أبدية من البداية أو حاملة نعشها معها؛ فـ‘الشاعر الحقيقيُّ هو من يولدُ ساعة موتهِ‘. كلّ ما أكتبهُ الآن ينتمي إلى تجربة جيل جديد كاملٍ. لكن لا يمكنُ تقييم ما أكتبه إلا بعد صدور العمل الأوّل الذي لن يطول كثيرا. مسألة نشر الشعر باتت معقدة في تونس، حيث لا توجد دور نشر بالمعنى الحقيقي وذلك لغياب فهم حقيقي لطبيعة المشهد الثقافي في تونس، فمن يمثلون الكاتب التونسي من المنتمين إلى تنظيمات واتحادات لا علاقة لهم بما يحملهُ الجيل الجديد من تصوّرات حقيقية لبناء واقع مغاير يصلِحُ من وضعية دور النشر والتوزيع في تونس. إذا لم يحدث تغيير جذري في صلب وزارة الثقافة فستتحوّل هذه الوزارة بمرور الوقت إلى مستودع كبير لكل ما هو جامد”.

نتطرق مع عليمي إلى الحديث حول رؤيته للشعر التونسي اليوم، ليقول ضيفنا “يشهد الشعر التونسي اليوم ثورة حقيقية بقيادة جيل قطع أشواطا جديدة من أجل كتابة نصّ حقيقي ومتجاوز، جيل لا يصدّق ما يراهُ معلّقا في السّماء العالية لكنّه يصدّق دائما مرارة الأشواك التي يلتقطها بكفّه كي يترك للدم مساحة للكتابة، جيل يكتبُ بدموعه ودمه مع كلّ المسحوقين في هذا الوطن الذي ما زال يركضُ خلف حلمه. لكن هذا لا ينفي وجودَ مشاريع هدم قائمة تسعى جاهدة إلى زرع الرّداءة في كلّ زاوية”.

يحدثنا عليمي عن مشاريعه الأدبية اللاحقة من شعر وترجمة وإن كان يفكر كبقية الشعراء في كتابة رواية، ليقول “أفكّر في طباعة مجموعتي الشّعرية الأولى هذه السّنة إضافة إلى بعض الكتب في مجال التّرجمة التي ستصدر قريبا عن دور نشر تونسية وعربية. أما بالنّسبة إلى الرواية فهي مرتبطة تماما بعملية الكتابة بمعناها الواسع.

إذا حدث وكتبت رواية فالشعر هو ما سيدفعني إلى ذلك، لأنه كما أشرتُ سابقا هو محرّك كلّ شيء، فالرواية الخالية من الشعر أشبهُ بصخرة لا نبض فيها. الشعر هو الحياة لأنه لا يؤمن بموت الإنسان، فإذا آمنتُ بموت الإنسان الذي لا يكفُّ عن الاحتضار، سأتّجه مباشرة إلى الرّواية كي أكتب عن موتهِ”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى