نسوة عربيات يعرضن حياتهن المناضلة

شيرين أبو النجا

«أنا بخير، اطمئنوا» كانت الجملة التي ذيلت بها المناضلة المصرية الراحلة شاهندة مقلد (1938-2016) رسالة كتبتها أثناء اعتقالها سياسياً عام 1978 ووجهته إلى ريم سعد، الباحثة الأنثروبولوجية المعروفة وابنة المناضلة والمعلمة الراحلة وداد متري (1927- 2007). احتلّت هذه الرسالة، المكتوبة على ورق الحمام، مكاناً بارزاً في المعرض الذي يقام في مسرح الفلكي في الجامعة الأميركية في القاهرة بعنوان «أنا بخير، اطمئنوا».
الرسالة طويلة وقراءتها ليست ممتعة فحسب، بل هي كاشفة لكلّ التفاصيل اليومية التي يصنع تراكمها ما يُسمى التاريخ. لكنّ ذاك التاريخ غير الرسمي الذي لا يتم تدوينه، وعندما يتم تدعيم هذه الرسالة بصورة تجمع شاهندة وريم، تصبح لدينا قصة جديدة تسمح بإعادة صياغة العلاقات.
يُلقي هذا المعرض الضوء على حيوات النساء غير المدونة، في العمل والحراك والعلاقات. هنّ نساء من كل الفئات والأعمار وذوات خلفيات مهنية وطبقية وثقافية متعددة. لكلّ واحدة منهن مسيرة سردية بصوتها ومقتنياتها الشخصية وصورها وأعمالها وملابسها، قد تدفعها إلى تبني عنوان المعرض ولو ضمنياً.
في توجه نسوي يستدعي التقدير والتأمل، يتعامل المعرض مع النساء بوصفهن مناضلات تمكّن من تحقيق أحلامهن بالصبر والاصرار، والأهم بالعمل. أما الكيفية التي تمت عبرها صياغة هذه الرؤية لتتحول إلى معرض هي ما يهمنا وما يستدعي التفكير كثيراً في طرق التأريخ المعتمدة.
عرف النقد الأدبي منذ القرن الثامن عشر المذهب التاريخي الذي ساهم في إرساء قواعده الناقد الإيطالي فيكو، إذ وضع مبادئ تجعل العلاقة وثيقة بين العمل والنسق المجتمعي. وبتطور هذا الأمر عُرف مذهب التاريخانية في الأدب، بمعنى أن يحصل العمل الفني على إمكان تصوير تاريخ فترة ما أو حدث ما، ولكن ما بعد البنيوية عمدت إلى طرح العديد من الأسئلة على ما تم اعتماده بوصفه تاريخاً رسمياً، وأسست من ثم مذهب التاريخانية الجديدة. وهو يقوم على إمكان تقديم قراءات مختلفة للتاريخ عبر مصادر جديدة، تختلف عن تلك المتعارف عليها كالصور الفوتوغرافية والخطابات والشهادات والمقتنيات، وأيضاً المقابلات التي تدخل في إطار التاريخ الشفوي (في مقابل المكتوب من الطرف المنتصر).
وفي حين أصبح التاريخ الشفوي- ومعه السير المسرودة والمقابلات وجهاً لوجه- مجالاً شبه مستقل في البحث، ظلّ يتداخل ويتقاطع مع دراسات الذاكرة، ليشكلا معاً أحد أهم وسائل إعادة النظر والتفكير في مسلمات تاريخية، وإلقاء الضوء على ما تم تصنيفه حدثاً هامشياً. والأهمّ أنّ هذه الوسائل تساعد على إعادة النظر في وضع النساء وعلاقات الجندر التي تقوم على أساس علاقات قوى يصعب كثيراً خلخلة مواقعها.
ما الذي يجمع بين مقتنيات الفنانة المصرية الراحلة هند رستم وكلماتها، وبين أول طبيبة مصرية كوكب حفني ناصف؟ ما هو الرابط بين التشكيلية اللبنانية ريم الجندي التي أبدعت مثلاً في رسم أيقونات للشعب السوري وفنانة الفخّار المصرية راوية محمد التي تعلمت صناعة الأواني الفخارية، بدلاً من تعلم القراءة والكتابة والفنانة العراقية وداد الأورفه لي، التي أسست أول قاعة عرض للفنون في العراق في ثمانينات القرن العشرين؟ ما الذي يجمع أم ابراهيم الفلسطينية ونادية صفوت المصرية وبلسم أبو زور اللبنانية؟ العمل والحراك وترك الأثر.
تقول رؤية المعرض عن العمل إنّه «تجربة معقدة تلقي بظلالها على عوالم النساء بكل جوانبها»، وفي ذلك «تتحرك النساء في بعض الأحيان بالصدفة، وفي بعض الأحيان باختــيارهن، وفي أحيان أخرى رغماً عن إرادتهن، والعديد منهن لا يتوقفن عن الحركة مطلقاً».
في هذا الحراك الدائم- سواء أكان جغرافياً أم معرفياً أم اجتماعياً- تترك النساء دائماً ما يدلّ على آثارهن، آثار لا يدونها التاريخ الرسمي ولا يعترف بما يحرّكها من تحديات وصعوبات ومشاعر. التاريخ لا يسجل المشاعر، قد يسجل الحروب، لكنه لا يسجل حرب النساء مع المجتمع ومع الذات.
يعترف التاريخ بالبطولات العظيمة- دائماً ما تكون مقترنة بالفارس المغوار، وهو ما يستدعي أن يكون للبطولة تعريفاً جديداً، لكنه لن يسجّل بطولة رقية السنتريسي (أم ابراهيم) التي اضطرت إلى الفرار عام 1948 عند حلول النكبة، وبعد إقامة قصيرة في دمشق، غادرت مع أسرتها وأبنائها الثمانية إلى الأردن، وهناك استغلّت فنّ التطريز الذي تعلمته منذ أن كانت في العاشرة وحولته إلى نشاط مدر للدخل، قامت بتدريب أجيال من النساء على التطريز واشتهرت بأنها صاحبة الفضل في تغيير وجه فن تطريز الوسائد.
لا يعتـــرف التاريخ الرسمي بهكذا بطولات، فلا تظـــهر إلا عبر سير شفوية ومقتنيات شخصية وصور فوتوغرافية وقصاصات صحف، والأهم هو الأثر الذي تركنه هؤلاء النساء.
يموج المعرض بآثار هؤلاء النساء فيحرك طبقات الشجن المنسية ونحن نتابع سير حيوات تركت آثارا ًلا تُنسى ولا ينبغي أن تُنسى كنتيجة لتقييد تعريف البطولة. كلّ أثر جاء بعد مسيرة صعبة يعلن عن نفسه قائلاً «أنا بخير، اطمئنوا».
المعــــرض الذي احتفى بنساء عربيات يقمـــن في مصـر ولبنان والأردن والدانمارك، هــــو عبارة عن عمل مشترك تعاونت فيه مؤسسة المرأة والذاكرة من مصر، ومتحف المرأة في الدانمـــارك والمعهد الدانماركي المصري للحوار ووحدة الأنثروبولوجيا ومركز سينثيا نيلسون في الجامعة الأميركية في القاهرة ومركز طراز في الأردن وورشة المعارف في لبنان.
وإن كان العمل قد ضم هذه الأطراف كشريك، إلا أن هناك ثلاثة عقول نسائية هي التي قامت بتنسيق المعرض، من ناحية البحث والاختيار والمزج وهن: ميسان حسن، لمى عطية، سيبا اينرزدوتر. هنّ قدمن رؤية تاريخانية جديدة لحيوات نساء جئن من فضاءات مختلفة، ما يدفعنا إلى إعادة طرح أسئلة تم إيهامنا بأنها قديمة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى