فيلم «متاهة بان» لغييرمو دل تورو: من النهايات والموت تولد البدايات

نسرين علام

«على قمة جبل تنمو زهرة كل ليلة تمنح من يقطفها الخلود. تحيطها أشواك سامة. في السفح يتحدث الرجال عن خوفهم من الموت والألم. ولكن لم يتحدث أحدهم قط عن وعد الحياة الأبدية».
هكذا قصت أوفيليا الصغيرة (أنا باكيرو) على أخيها الذي لم يولد بعد ليهدأ في بطن أمها. أوفيليا ذات الأحد عشر عاما هي بطلة فيلم «متاهة بان» (2006) للمخرج المكسيكي غييرمو دل تورو. وفي هذه القصة الصغيرة التي تقصها أوفيليا أجد مفتاح رؤيتي لهذا الفيلم الذي يسحرنا صورةً وقصةً وأداءً. ثمة سبيل واحد للخلاص في الفيلم، سبيل وحيد للوصول إلى الخلود، ذلك السبيل يتطلب الكثير من التضحيات والكثير من الألم، ولكن من يسلكه يصل إلى الأبدية. هذا السبيل هو الذي سلكته أوفيليا الصغيرة. قد يرى البعض مأساة وفجيعة في مقتلها على يد ظالم طاغ، ولكنني أراه بداية جديدة لها بذلت لأجلها التضحية الكبرى، تلك التضحية بالنفس والعمر، التي لم تكن فقط للوصول إلى الخلود، ولكن لتجنب إراقة دم بريء ولمنح مستقبل جديد لبلدها.
«متاهة بان» فيلم عن الخيال، وكيف تستعين به أوفيليا على فهم الواقع وتفسيره والتغلب عليه، لكنه أيضا فيلم واقعي، عن الواقع في أحلك صوره أحيانا، ذلك الواقع الذي يوجد فيه الكثير من البطش والشر وسفك الدماء، ذلك الواقع المليء بالحرب وشرورها، الذي تتخلله بعض محاولات التصدي لهذا البطش.
إنه فيلم ينسج فيه دل تورو عالما يتضافر فيه العالم الخيالي وحواديت الأطفال وما بها من مخلوقات غريبة وعوالم سحرية، مع الواقع شديد البطش والظلم في إسبانيا بعيد انتهاء الحرب الأهلية، وفي عصر الجنرال فرانكو بما فيه من قمع في أربعينيات القرن العشرين. في قلب الفيلم وفي قلب هذا المزيج بين الخيالي والواقعي أوفيليا، التي نراها أول ما نراها تحمل قصصها وحواديتها المصورة في السيارة التي تقلها مع أمها الطيبة إلى منزل زوج أمها الكابتن فيدال (سيرخي لوبيز)، أحد الضباط الشرسين
الموالين لفرانكو، الذين يبطشون كل البطش بمعارضيه. لكن قراءة أوفيليا للقصص والحواديت لا يعني أن العالم المليء بالمخلوقات الغريبة والمغامرات المخيفة هو محض خيال وأحلام لصبية صغيرة. العالمان الحقيقي والخيالي موجودان ومتزامنان، وكلاهما حقيقي بصورته الخاصة وله متطلبات التعامل معه، وأوفيليا لديها من الذكاء والفطنة والشجاعة ما يمكنها من التعامل مع العالمين. الخيال بالنسبة لأوفيليا ليس مهربا من الواقع، ولكنه وسيلة للتعامل معه والتصدي له. ولكنها حين يجد الجد لا تتوانى أبدا عن المعارضة والتمرد وتحدي الجنرال شديد القسوة الذي تزوجته أمها.
والمتاهة التي تعنون الفيلم، هي ذلك المكان العتيق المهجور ضمن مجمع بيت
الكابتن فيدال. هي تكوين يعود للعصور الوسطى عادة، وكثيرا ما ارتبط بأحداث
الرعب والتضحيات البشرية وما شابه. وفي المتاهة تلتقي أوفيليا بذلك المخلوق
السحري الذي ينبئها بأنها في واقع الحال أميرة ضلت في عالم البشر، وأن أباها ينتظرها في عالم الخلود، ولكن عليها إثبات جدارتها بتحقيق ثلاث مهام.
المتاهة، كما أراها، ترتبط بفكرتين رئيسيتين هما الضياع والتيه والفقد من جهة ولمن ينجو منها ويعرف طريق الخروج تعني ميلادا جديدا من جهة أخرى. المتاهة مكان انتقال من حال إلى حال، انتقال من الضياع وانعدام الرؤية إلى الوضوح ومعرفة الطريق. المتاهة إذن هي المكان الأمثل لتخرج هذه الأميرة «التي نسيت من أين جاءت» من عالم الفقد والضياع لتصبح أميرة مخلدة. والمتاهة وحال أوفيليا أيضا هما خير صورة مجازية تنطبق تماما على حال إسبانيا في الحرب الأهلية وعهد فرانكو ثم الفترة التي تليها. هي فترة تخبطت فيها إسبانيا طويلا لتخرج مخلوقا جديدا. ونراه أمرا دالا تماما أن أوفيليا فضلت الموت على ألا يراق دم أخيها الرضيع، ذلك الصغير الذي ولد لأم طيبة وأب بالغ البطش والقسوة والطغيان، والذي تعهد مسلحو المقاومة «ألا يعرف اسم أباه قط».
مجددا، إنها اسبانيا التي تولد من جديد والتي يجب أن توصد جميع الأبواب أمام ماضيها المتمثل في صورة الأب الباطش. أوفيليا مرتبطة دوما بالتجدد والخلق من جديد ومنح الحياة. نرى أوفيليا في معظم الفيلم مرتدية الأخضر بدرجاته، بما في ذلك من دلالة على النبات والخصب. ونراها تنقذ الشجرة التي تموت بفعل الضفدع الضخم الذي يمنع الغذاء عن جذعها، ونراها تسقي هذه النبتة السحرية الشبيهة بالرضيع حليبا وقطرات من دمها. أوفيليا إذن هي مانحة الحياة في عالم الخيال وفي عالم الواقع. هي التي تنقذ النبات وهي التي تنقذ أمها من إجهاض محقق، وتنقذ حياة أخيها الرضيع. وهي أيضا التي يوضع على عاتقها مهمة إنقاذ الوطن، متمثلا في صورة ذلك الأخ الرضيع الذي ضحت بحياتها من أجل ألا يصيبه مكروه. وفي أوفيليا أيضا تتمثل فكرة الاختيار والمقاومة. كان بإمكان أوفيليا أن تذعن
لإرادة الكائن الأسطوري وتريق دم أخيها الصغير حتى تحصل على الخلود، ولكنها تختار بقناعة تامة ألا تفعل ذلك، رغم أنه يعني عدم ذهابها إلى عالم الخلود الذي تسعى للوصول اليه. تختار بكامل إرادتها ألا تريق دم بريء. وتختار ألا تعطي أخاها لأبيه، رغم معرفتها إن زوج أمها لن يتورع عن قتلها، ولكنها تتمسك بخيارها ومبدئها وقناعتها، فتقتل على أرض الواقع وتنال الخلود في ذلك العالم السرمدي

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى