البعض حاول أن يمحو أمل الكتابة بالضوء

فجر يعقوب

طوال الشهور التي مرّت على إطلاقه وإذ وصل اليوم في عروضه إلى المخيمات الفلسطينية في لبنان، حيث قُدّم قبل أيام في سهرة خاصة في الهواء الطلق في «مخيّم شاتيلا»، حصد فيلم «3000 ليلة» للمخرجة الفلسطينية مي المصري، جوائز مهمة في مهرجانات عربية وعالمية.
تقول صاحبة «أحلام المنفى» عن فيلمها الروائي الطويل الأول هذا إنه مصنوع «من لمسات إنسانية عميقة لم تكن ممكنة أبداً من دون هذا الانسجام في الأصوات الأنثوية التي حملته وحلقت به عالياً».
اليوم تقف المصري على مسافة كافية من تقييم باكورتها الروائية الأولى من دون أن تغفل أهمية تجربتها الوثائقية في تقييم هذا الحس الإنساني العميق الذي ميز فيلمها. تقول تعليقاً على استقباله المدوي أخيراً في فرنسا: «أعتقد أن عروضه الفرنسية كانت من أنجح العروض التي حظي بها حتى الآن. 35 صالة قامت بعرضه وسط تغطية إعلامية لافتة، وهذا يمكن ردّه إلى تجربة التوزيع الناجحة التي تحققت له». وقد نال في فرنسا وحدها 9 جوائز من أصل 23 جائزة حظي بها حتى الآن. وعلى رغم هذا الحضور القوي للفيلم وللمخرجة المصري إلا أن الفيلم تعرّض لمحاولة منع من جانب بلدية أرجانتاي القريبة من باريس، لكن ردود فعل متعاطفة قوية على هذه المحاولة من قبل الجمعيات السينمائية وجمعيات حقوق الإنسان والحريات جعلت إمكان منعه مستحيلاً، حتى أن صحيفة «لوموند» كتبت ضد فكرة منعه، حتى أن مخرجاً كبيراً مثل كين لوتش حضر عرضه وكتب «إنه من العار أن يمنع هذا الفيلم». وعن الالتباس الذي حصل أثناء استضافتها للحديث عن فيلمها في راديو فرانس انتير قالت صاحبة «أطفال شاتيلا»: «لقد كنت ضيفة الشرف في هذه المقابلة، وتمّ إقحام مخرجة إسرائيلية فيها دون استشارتي، حتى أنني لم أعرف من تكون هي، ورفضت أن انصاع لمثل هذا التصرف من أجل الحديث عن (إحالات مشتركة بيننا) على أساس أن فيلمها يتحدث عن المرأة الإسرائيلية». وتضيف المخرجة المصري: «لقد لاحظت أكثر من مرة أنه عندما يُطرح الموضوع الفلسطيني في أي محفل دولي أو مهرجان سينمائي أو ثقافي يتم إقحام الرواية الإسرائيلية، كأنه لا يجب أن نفكر من دون وجود هذا الآخر – الدخيل والمستغرق في تعكير صفو الحياة الفلسطينية. وأنا عندما اعترضت على ذلك حظيت بدعم كبير من المستمعين من خلال الرسائل، حتى تراجعت مديرة البرنامج عن موقفها».
وعن قراءتها خريطة الجوائز التي حصل عليها الفيلم حتى اليوم بصفته أول عمل روائي طويل لها بعد سلسلة وثائقية بيّنة ومهمة تقول المخرجة الفلسطينية: «لا يمكن تجاهل هذه القراءة تحت أي بند أو ملاحظة، فمثل هذه الجوائز تعني أن الفيلم نال اعترافاً دولياً ناجزاً، ما يعني تقريبه أكثر من الجمهور ولا أخفيك أن هذا هو هدفي بالدرجة الأولى. أنا أعي أنني ركزت على توزيعه في كل دولة على حدة، وهذا شيء مهم للغاية، كما أنني لم أغفل الدول العربية من حساباتي، اللهم باستثناء الدول التي تشهد حروباً ونزاعات دموية». وعن محالات منعه أيضاً في إيطاليا تقول المصري أن الفيلم عرض أخيراً هناك واستقبل بحفاوة بالغة من جانب جمهور مثقف، وكان لافتاً أيضاً أنه تعرّض لمحاولة منع من جانب السفارة الإسرائيلية في روما بالضغط على الجامعة وقاعة البالاديوم التي تستضيفه، لكنها فشلت، وتم عرضه على رغم منعه أول مرة إثر حملة تضامن كبيرة ضد تدخل السفارة الإسرائيلية في الشؤون الإيطالية الداخلية.
وعن إمكان عودتها ثانية إلى الهوى الوثائقي كما في تجربتها الغنية على هذا الصعيد تقول المصري: «هذا يعتمد على الموضوع أساساً، وهو يفرض الشكل، حتى أنني أعتبر أن فيلم «3000 ليلة» هو استمرار لمشروعي، وإن كان هناك موضوع وثائقي، بالتأكيد سيفرض نفسه علي. المهم هنا هو العمل بصدق وعمق، وأنا أعتقد أنني وجدت في هذه التجربة أكبر تحدٍّ لي واجهني منذ أن بدأت العمل مخرجة سينمائية».

حاضرة في النوعين
وتقول المصري أنها وجدت نفسها بالتأكيد في النوعين «فقد تعلمت كثيراً من صناعة الفيلم الوثائقي، وهو الذي صنع لي هويتي الإنسانية بهذا القدر الذي نحكي عنه في رواياتنا وقصصنا وأفلامنا، ولا يمكن أن أغفل البتة أن تطوير الفكرة الروائية قد بدأ أساساً نتيجة هذا الاحتكاك المبكر مع الواقع بتفاصيله كافة، مع الإشارة التي لا بد منها إلى أن الفيلم الروائي يتيح حرية أكبر للغوص في مجالات إبداعية لا تحد ولا تضاهى، وهذا يستحوذ عليَّ كثيراً، ففيه تكمن إمكانيات كبيرة على صعيد التشكيل والتجريب على رغم أنه يحمل ضغوطات أكبر». وتقول المصري أن الأفلام المستقلة في حاجة إلى استراتيجية خاصة بالتوزيع، وهذا أمر تعلمته أخيراً من خلال الممارسة العملية».
وفيلم «3000 ليلة» كما بات معروفاً، يحكي قصة سجينات فلسطينيات يعشن في ظروف صعبة ونادرة الوقوع حتى في أكثر الأماكن همجية وخراباً في العالم. تبرز خيوط القصة وتنمو وتتطور مع دخول المعلمة الفلسطينية الشابة ليال عصفور (لعبت دورها الممثلة الفسطينية – النصراوية ميساء عبدالهادي) السجن الإسرائيلي بنهمة التغطية على محاولة فتى فلسطيني الهجوم على حاجز إسرائيلي. تدفع ليال من عمرها نتيجة ذلك ثماني سنوات وراء القضبان، وتضع مولودها الأول وهي تقضي «العقوبة». القصة كما تروي مي المصري حقيقية دفعتها إلى التأمل فيها طويلاً قبل أن تشرع في كتابة السيناريو. كان لا بد من التروي في الكتابة، فالقصة تستحق أن تسرد من وجهة نظر الضحية، لا بصفتها ضحية وإنما كائن إنساني قيد التحقق في مساحة جهنمية يتم فيها مسح معالم الضحية وإرواء عطش القاتل بمزيد من الدم. على رغم حداثة سن هذا الكائن، إلا أن القصة يمكن سردها من هنا: «في السجن هناك المناضلات الفلسطينيات وهناك في الطرف المقابل السجينات الجنائيات الإسرائيليات اللواتي زرعن هنا بهدف إرغام الفلسطينيات على الخضوع للابتزاز اليومي في المعاملة من أجل كسر إراداتهن. لكن إيقاع السجن الرهيب يتبدل ها هنا بفضل هذا الإيقاع الأنثوي الذي نجحت مي المصري في التعامل معه، كما تعاملت أساساً مع النص المكتوب قبل الشروع في التصوير وحجز الأمكنة التي ستدور فيها الأحداث. يحسب لصاحبة الفيلم حسن اختيارها إياها، كأن ما سيقال أمام كاميرا صاحبة الأحلام الفلسطينية المنفية سيصبح من الآن فصاعداً هو ذلك النشيد المكتوب بالضوء على جدران معتمة وضيقة، ولا أمل بالانشقاق عنها إلا بمزيد من الكتابة السينمائية الروائية التي ننتظر.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى