التشكيلي العراقي علي رضا سعيد: أعمالي تجسيدٌ لوحشية الحرب واحتجاجٌ عليها

عبدالدائم السلامي

تخرّج الفنان التشكيلي العراقي علي رضا سعيد من كلية الفنون الجميلة في بغداد سنة 1984، ونال سنة 2013 درجة الدكتوراه من المعهد العالي للفنون الجميلة في تونس. وبسبب الحرب في العراق سافر إلى عمّان ومنها إلى عواصم عربية كثيرة ليستقرّ أخيرا في العاصمة التونسية مُدرِّساً للفنون الجميلة في إحدى جامعاتها، ومؤسِّسًا مرسمه في أحد أحيائها. وقد أقام عدّة معارض جماعية وشخصية، وشارك في ملتقيات علمية حول الفنّ التشكيلي.
وبمناسبة مشاركته في الدورة الرابعة لملتقى الفنون البصرية في مدينة الحمامات التونسية ارتأت «القدس العربي» أن تحاوره حول تجربته الفنية وأساليبه فيها.
■ في الوقت الذي تصدّت فيه فنون السينما والأدب والمسرح لقراءة الواقع العربي الراهن وتجديد أسئلته، ظلّت اللوحة التشكيلية، في أغلب نماذجها، مفتونةً بقراءة ذاتها بعيدا عن الناس. فما مدى وجاهة هذا الرأي؟
□ الظروف المستجدة تفرض على الفنان البحث عن أدوات فنية أخرى، للتعبير عن الانهيار والتفكك والمأساة التي يعيشها المجتمع العربي، من جراء الحروب. وفي مثل ظروف كهذه، خضع الفنان لجدلية العلاقة بين الشكل والمضمون للتعبير عن هذه الأحداث التاريخية المروعة للإنسان. والفنان في تقديري جزء لا يتجزأ من هذا التاريخ ومن هذا المجتمع، يؤثر فيه ويتأثر به محاولا فهمه والتعبير عنه. ومهما كانت نتائج التأثير في الثقافة والمجتمع، ومهما اختلفت آراء المتابعين والنقاد، وأصحاب الرأي الفكري والجمالي في تلك الإنجازات الفنية، فإنّ إرادة الفنان العراقي، على سبيل المثال، وموقفه من الحرب والخراب الذي أصاب البلاد والعباد، أَلْهَمَا عواطفه وألهبا مشاعره، فجاءت بعض أعماله التشكيلية تجسيدا لوحشية الحروب وجرائمها، من هدم وقتل وإبادة، واستنكارا للقتال بأساليب فنية تعبيرية تكشف عن فظاعة الحروب وويلاتها، وما تخلفه من دمار وقتل.
وعلينا أن نعي أن علاقة الفن التشكيلي بالواقع والمجتمع، علاقة غير مباشرة، وأبعد ما تكون عن التطابق، وإنّ أي عمل فني لا يمكن أن يكون فوق العلاقة بين الإنسان وعالمه بصورة مطلقة، إذ لا بد للفن من أن يُعبر عن هذه العلاقة، أو يسهم في خلق علاقة جديدة أو متخيلة، بمعنى أن الفن كشفٌ جديدٌ لحقائق نوعية، يكشف عن العلاقات الخفية بين الأشياء التي تبدو في الواقع متنافرة أو متباعدة أو مألوفة. ومنجزاتي التشكيلية على تنوعها وتعدد اتجاهاتها ومصادرها تجمع بين التجديد والتحول استنادا إلى الواقع.
الفنانون التشكيليون قاوموا الحرب وواجهوا الظروف الصعبة والقاسية وقدموا إنجازاتهم الفنية، هي في حقيقتها تمثيل للواقع، وكشف عن المكبوت داخله بأشكال في التعبير متنوّعة اجتماعيا وفكريا وجماليا، وهذا ما يدلل على حيوية الفنان وقدرته على الرؤية، ومدى الفهم والجرأة والمخيلة، وهذه هي مواجهة الفنان التشكيلي وصراعه مع ظروف الحرب والمتغيرات الكارثية التي تجتاحه.
■ »الجَسَدُ» في لوحاتِك هندسيٌّ وغائمُ الملامحِ، هل في هذا إنباءٌ بانسحاقِ شخصيةِ الإنسان وضمورِ فاعليته في الواقع؟
□ الجسد ودلالاته الرمزية جعلاني أكثر اقترابا من الإنسان في معاناته، وهذا الاقتراب منحني قدرة على تأمل المحنة بأجلى صورها، محاولا أن أجسد المضامين النفسية للإنسان، وأن أكتشف العمق الآخر فيه منظورًا له من الداخل، أي من الذات التي تصور مختلف مظاهر العزلة والانطواء والوحشة، وتفصح عن الأعماق الداخلية وتعبر عنها بالرمز الفنيّ. وإنّك تلمس هذا من اتساع مساحة التجريب في أعمالي، شكلاً ومضموناً، فمن صور الحرب إلى الرسوم المكرَّسة للمدينة العتيقة، فضلا عن تجارب متنوعة تخرج عن نسقها التقليدي وتتداخل مع الخامات، إني أقف متحصناً بتجارب تقنية تعكس محنة أبناء جيلي ونكساته، تجعلني ملتزماً بمعاينة ما يجري من حولي، ومرتبطا بذاكرة ذاتية مليئة بالصور والمخزون اليومي. إن البعد الرمزي في لوحتي لا يمكن فصله عن رؤيتي الفنية، فالرمز في لوحتي لا يبلغ مرحلة التجريد، وإنما هو يبقى رمزاً تعبيرياً شديد الالتصاق بحالات الإنسان، أو بالجسد البشري ذاته، في محاولة لجعل الإنسان القيمة المباشرة للفن.
■ تكشف أعمالُك الفنيةُ عن حرصِك على خلق حواريات بين مفردات لوحتك التشكيلية (اللون، الشكل، الزمن، الإضاءة والثيمة) حتى لكأنها مرسومة لتُسْمَع لا لِتُرى. هل يجوز القول بأنّ تلك الحواريات إنما هي تجاوزٌ فنيٌّ منك لضعفِ ثقافة المتلقي البصرية؟
□ عايشتُ ثقافات متعددة فمن بغداد إلى تونس مرورا بعَمّان وأقطار أخرى، نَمَتْ حصيلتي الثقافية والبيئية، لتنتج فنا بمؤثرات ثقافية مختلطة تركت بصماتها الواضحة على تفاصيل منجزي الفني. وبعد أن تمكنت من كل أدواتي التقنية فإنني لا احتكرها لنفسي، بل هي خبرات أتداولها مع الجميع من طلبة وهواة وعصاميين.
قدمت تجاربي الفنية واشتغلت في عناصر العمل الفني، المعالجة والتقنية واللون والبناء والحركية. أنا أشتغل على تعدد الطبقات اللونية المتراكمة، ومن ثم الحفر في هذه الطبقات، لإحداث أثر واضح على سطح اللوحة. ولا يمكن فصل الخامات عن الألوان مطلقا، لذلك تبدو لوحتي مركبا عضويا، وتبدو التنويعات الخاصة التي أعمل عليها قادرة على منح المتلقي رؤى جديدة، كذلك كانت لطخات الفرشاة العنيفة تعبيرا عن حالات الإحباط والتمرد، وكان أسلوب تصادم الألوان تعبيرا عن تصادم أكثر من حالة نفسية ومزاجية، والخطوط الحادة والمتشابكة إنما هي تعبير عن المأزق النفسي والاجتماعي. وحين أريد تصوير تلك الأحداث في أعمال فنية فإنني أتمثل تلك الأحداث موضوعيا وأنحاز لها إنسانيا وأعبِّر عنها بطريقتي، ولا بد أن تكون نتيجة ذلك حاصلَ تفاعل خبرة ونفاذ بصيرة، يتعدّيان انبهار العين بمظهر الحدث إلى الانصباب على جوهره وضبط الانفعالات المتصلة به، وسيطرة كاملة على أدوات التعبير. إن قسوة هذه الظروف وتأثيراتها على الفنان لم تستطع أن توقف الحركة التشكيلية من التواصل والاستمرار، لتدخل اللوحة التشكيلية المعاصرة في العراق إلى أكثر من محطة عربية وأوروبية، حيث تم إنجاز العديد من المعارض الفنية التشكيلية في بغداد وعمان، وكذلك في ليبيا وتونس، إضافة إلى معارض عراقية مشتركة، سعى الفنانون العراقيون في عدد من عواصم العالم إلى تنظيمها، وبذلك يكون الفنان العراقي قد أسهم في الحد من تلك الأزمات وما ولدته من مآسٍ ودمار وألم وحرمان.
■ كيف تنظر إلى الإمكانات الجمّة التي صارت توفّرها التكنولوجيا للفنان التشكيلي؟
□ إن شكل كل أثر فني ومضمونه هما وليدا البيئة التي ينتج فيها ذاك الأثر، أي إنه لا بد من الأخذ بعين الاعتبار في قراءة اللوحة التشكيلية، الدور الذي تلعبه الوسائل التقنية كيفما كانت بسيطة أو معقدة. ولعلّ من خبرتي ما يتمثّل في تدبيري لمسألة التحكم في هذه الوسائل، حيث وظّفتُ خامات بتقنيات جديدة تجمع بين ما هو تكنولوجي وما هو فنّ تشكيلي، لتؤسس لمفاهيم جمالية وإبداعية جديدة، إذْ أقوم بتحويل وجهة الخامة عن بعدها الوظيفي الخاص إلى بعد إبداعي وجمالي، ضمن عوالم بصرية متجددة، كما يحسها العقل وتترجمها العين، لأن في العقل دائما هناك ميلا لوصف السطوح المرئية على أنها ناتئة وغائرة وخشنة أو ناعمة.
فالتقنيــة تختلف عن الخامة، باعتبار أنَّ التقنيــة هي «الطّـريقة التي تستعمل بها الخامة الموظفة في إبراز مؤثرات العمل الفني من حيث الملمس والانفعالات». أما الخامة فهي كل مادّة يستعملها الفنان في عملية التعبير التشكيلي، ويستغلّها كمادّة ذات قدرة تعبيرية غير محدودة. وإذن فالتقنية هي وسيلة أو مجموعة من الوسائل الإجرائيّة والعمليّة التي يوظفها الفنان في ما بينها للحصول على جملة من التأثيرات الملمسيّــة للخامات التي يتم توظيفها على سطح اللوحة، أو داخل الفضاء التشكيلي فتحقق فيه وظيفتها. في بعض الأعمال الفنية اعتمد على مجموعة من التقنيات بتوظيف خامتين (الألوان الزيتية وقطع غيار إلكترونية لجهاز حاسوب). والاهتمام بمسألة الثنائيات، سواء من حيث الاختيار أو من حيث التقسيم ضمن قاعدة الحامل، حيث تحتكر بذلك مساحة من الفضاء التشكيلي على شاكلة مستطيل.
■ ما سرُّ ميلِ لوحاتُك إلى المراوحة بين حضور اللون القاتم وحضور اللون الفاتح؟
□ بداية عليّ أن أشير إلى ميزة هذه الثنائية وما تخلقه من تباين بصري، من ذلك مثلا، أننا نجد أن التركيبة اللونية لهذا العمل ككل مبنية أساسا على الرماديات التي تميل إلى الزرقة، والتي تغطي كامل فضاء الخلفية للعمل التشكيلي. وقد وظفتها لتعزيز حضور بقية مفردات تشكيله، من خلال استعمال التركيبة اللونية الأكثر إضاءة وإشعاعا، وفي مقابل ذلك أستعمل أحيانا اللون الأصفر. ويمكن أن نبرر هذا الاختيار باعتبار أنه يمثل أكثر الألوان المشبعة بالضوء أو المُشِعة والمُعبِّرة عن الضوء.
■ ثنائية التداخل بين الخامة الصلبة والخامة العجينية.
□ ينهض عملي على عقــد روابــط جماليــة ضمن علاقات تشكيلية تتواشج فيها الخامات والمفردات التشكيلية على اختلاف خصائصها ومصادرها ومكوناتها، لتتوحّد ضمن حضور بصري واحد ومشترك ومتناسق. إنّي اشتغل على تعزيز حضور اللون داخـل مساحات الكتــل الإلكترونيـــة الملصقــــة ونتوءاتها وفجواتها لخلق علاقة عضوية بينها وبين العمل ككل، بما هو تأليف وبناء، حيث تتداخل بين اللون الأصفر وهذه الكتــــــلة ضمن حضور مكثف للعجينة اللونية. كما أعالج هذه العلاقة بين الخامة الملصـــــقة واللون، من خلال جعل اللون لصيقا بهذه المادة، دون أن يدخل في تفاصيلها، حيث تتموضع المادة دون إدخال تعديلات لونية عليها وإن بخلق روابط بصرية ضمن علاقات جمالية. ويكون التركـــيز في هـــذا العمل على جملة من الأبعاد العلائقية الرابطة بين المادة والتقنيــة والأسلوب، وعلى العلاقات البصرية التي تفرضها مختلف التباينات بين كثافة اللون وخفته، وبين الحضور المكثف للمادة الملصقة، وبين حضورها المحدود بين الضوء والعتمة، فضلا عن الشفافية التي كادت تحضر بشكل متوتِّر ومتواتر ضمن أكثر من شاكلة، إضافة إلى جعل العمل التشكيلي قائما على محور الدمج والتلصـــيق داخل منظومات تشكيلية لونية مختلفة.

 

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى