العقدة الحقيقية والأخرى المتوهَّمة في رواية «ابن القبطية»

حمزة القناوي

في عالم الأدب ووفق آليات إنتاجه لا يكفي تناول قضية فكرية اجتماعية لها ثقلها وأهميتها وحساسيتها الخاصة وحسب، وإنما لا بد من أن يكون لهذا التناول ذائقتهُ الجمالية وقدرته على خلق حالة من الاستمتاع لدى المتلقي المهموم بمادة العمل الأدبي والمهتم أيضاً بالتحقق الجمالي له.
ورواية «ابن القبطية» لوليد علاء الدين، إحدى تلك الأعمال الفنية التي تمسك بين دفتيها كلاً من: القضية الاجتماعية المثيرة للجدل من ناحية، والإبداع الجمالي وتحقيق المتعة الفنية من ناحية أخرى، وقد صدرت في توقيت يثير العديد من التساؤلات المحيطة بالمجتمع العربي عامة، والمصري خاصة، أضف إلى ذلك المتغيرات العنيفة التي يعيشها المجتمع المصري الآن، لذا تضيف الرواية للواقع العربي المأزوم بُعدَاً إنسانياً له سمتُهُ الخاص، يتجسد في شخصية (يوسف حسين) المصري المولود من أب مسلم وأم قبطية، التي رغم دلالتها الظاهرة في رمزية التعايش بين المسلمين والمسيحيين في مصر، وفي وجود حالة متحققة على الأرض المصرية، فهناك بالفعل حالات قائمة ـ قلت أو كثرت ـ لقبطيات متزوجات من رجال مسلمين، فإن البحث عما وراء هذا التشفير والغوص في مدلولية «معنى المعنى» سيجعلنا أمام حالة غير استثنائية تخص (يوسف) وحده، فالمفارقة الطريفة أن الاستثنائي من وجهة نظر البعض، أي صلة القرابة بين المسلمين والمسيحيين، هي ليست بالأمر الجديد أو البعيد، بل هي أمرٌ أقرَّه من قبل الإسلام ذاته، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا فتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم ذمةً ورحِمَاً)، أليست السيدة هاجر مصرية؟ ووالدة إبراهيم ابن الرسول هي مارية بنت شمعون القبطية ابنة ملوي في المنيا؟ بهذا المعنى في تأويله، سنجد أن كل مصريٍّ على أرض مصر هو في النهاية (ابن قبطيَّة) ما إن يبحث أيٌّ من أبناء مصر في أصوله، سيجد أن هناك حلقة وصل بنسبٍ أو بصهرٍ مع قِبطِها، ومن ثم يصبح معنى المعنى الكامن في (ابن القبطية) رمزاً لكل مصري، وهو تجسيد لحالة جميع الرجال المصريين، لكن هذا المعنى يغيب عن ذهن الكثيرين، ومن ثم فإن العتبة الأولى للنص: عنونة الرواية بـ «ابن القبطية» عند محاولة تحديد مقاصدها الأساسية وبنيتها الدلالية على حد وصف عبد الفتاح الحجمري، فإننا نجد أن العنوان هنا لا يقف كمعادِل موضوعي لباقي النص الروائي بأكمله، بل يقف كحالة متجسدة لغالبية المصريين ذوي الأصول القبطية من ناحية، أو ذوي ارتباطات التعايش والتحاور الاجتماعي اليومي مع أقباط مصر، ومن ثم كأن النص هو انعكاس لمجمل المصريين، وكأن العنونة هي دلالة على حالة عامة لدى عموم المصريين.
يتلقى القارىء العربي الرواية وسط أحداث لها صداها على التلقي، فالعنف ضد الأقباط يتصاعد، والعالم العربي يدخل مراحل مأزومة من نتاجات التطرف والإرهاب ومحاولات فرض الرأي المتشدد بقوة التفجير والقتل، في خِضَم هذا تأتي رواية «ابن القبطية» لتعيد توازنات هذا الواقع الاجتماعي ومشهديته بهدوء سردي متقن، ويعنينا هنا تحديد بناء جماليتها، فذلك ما يكشف كيف حقق هذا السرد قوة إيقاعية في مواجهة وطأة ثقيلة من التجهم.
إن هذه الجَماليَّة قد تحقَّقت عبر التوازن بين رؤيتين متناقضتين يتم تقديمهما معاً، الرؤية الأولى هي ما جاءت واضحة وصريحة في الحوار الذي دار ضمن خيالات (يوسف حسين) مع (جورج كامل) حين يقول الراوي:
لماذا تتلصص هكذاً دائماً؟
لأن المجتمع الذي يُسمِّي ما يفعله منذر ورفاقه دعوة وعملاً خيرياُ، يُسمِّي ما نقوم به تنصيراً.
لا دخل لي بهذه أو تلك.
موقفٌ لا يجوز في هذه اللعبة.
أي لعبة؟
لعبة الوجود.
وجود من؟
وجودنا… أو وجودهم.
ألا يمكن أن يوجد كل منكما في الوقت نفسه؟
وجود كل منا مُنتَقَصٌ بوجودِ الآخَر
أنا وجودٌ مُشتَرَك
لن نقبل بهذا الموقف.
فلندقق التحليل : «ألا يُمكِن أن يوجد كُلٌّ مِنكُما في الوقتِ نفسِه»، ذلك مفتاح الشيفرة الذي تبنى عليه جمالية النص، ما يرغب المؤلف في بثه إلى وعي القارئ، أو القضية التي يطرحها في إبداعه هنا، لكن الإجابة تأتيه من رجع صدى المجتمع على لسان (جورج كامل): «وجود كل منا مُنتَقَص بوجود الآخر»، الحالة المأزومة التي يحاول أن يتناولها المؤلف ويوجد لها مقاربة جمالية، وفي الوقت ذاته يدق ناقوس الخطر، وينبه لها.
لا يقل عن ذلك خطورة تلك المحاورات التي دارت بينه وبين (راحيل) اليهودية ـ لاحظ استخدام كلمة يهودية وليس إسرائيلية ـ التي ترجع لأصول مصرية، والتي لا نعرف إن كانت شخصية حقيقية، أم هي محض أوهام (يوسف)- وسوف أعود لهذه الجزئية- لكن يهمني أن أسجل تلك المقولة على لسان (راحيل): «الإسلام يا يوسف هو الاستسلام لنظام الخالق واتباع تعاليمه الكونية» ، ثم تردف قائلة: «وبذلك يكون الإسلام مجموعة القوانين المنظِّمَة للحياة، بهدف ضمان جودتها وعمرانها، من هذه القوانين ما يخص الفرد ذاته، وهي أمور لا يمكن الحكم عليها إلا من خلال اعتراف هذا الشخص نفسه بها أو إنكارها، كالإيمان والأفكار التي تدور في العقل، يهودياً كان أم مسيحيا أم غير ذلك، ماذا يشعر مثلاً وهو يصلي؟ أو وهو يصوم، أو يمارس أي علاقة دينية خاصة مع ربه، هذه أمور خاصة لأنها ـ سواء قام بها الشخص أم لم يقم ـ فلن تضر المجتمع، ولن تمس عمرانه ولن تقلل من تحضره، لذلك فإنها– منطقياً– تظل متروكةُ للشخص، لا يؤاخذ أو يعاقب بها في الدنيا، وعقابه بها يكون بين يدي ربه. أما الجزء الآخر من تلك القوانين فهو المتعلِّق مُباشَرةً بالمجتمع، وثيق الصِّلة بحقوق الآخرين، لذلك فإن الشخص مُلزَمٌ بِها، مسؤول عنها، يعاقب في الدنيا على الإخلال بها، أو عدم الالتزام بحدودها، كالسرقة والكذب وشهادة الزور مثلا، والقتل… أو غير ذلك مما يتعلق بحقوق الآخرين في المجتمع» هذا النص، الذي يصلح أن يكون جزءاً من محاضرة ما، حتى أن الراوي نفسه يعود ويعلق على ذلك في صفحة تالية بأن هذا الكلام به على الأقل 20 مرجعاً، ولكن كيف استطاع الراوي أن يقدم هذه الرؤية التي يمكن أن تكون جزءاً من بحث، أو قطعة من محاضرة ضمن ثنايا العمل الأدبي، ولماذا على لسان (راحيل)؟
إن تقنية إسقاطات الهلاوس هنا، واعتبار كل ما يكتبه المؤلف من باب التقييد الكتابي لأحداث لا نعلم حقيقةً إن كانت وقعت أم لا، يسمح للراوي بأن يُسجِّل ما يريده، وأن يتقدم بخطابه إلى القارئ، فتقسيم الرواية له دوره في فتح أفق توصيل الرسالة إلى متلقيها، ما الذي أراد المؤلِّف أن يُضمِّن في نصه: «رؤية حول تعايش الأديان معاً، وتسجيل لواقع يرفض هذا التعايش، وتحليل لدواخل الشخصيات التي تتخذ لنفسها موقفاً يصل لحد اليقين في أحكامها على الآخرين، وانتقاد للمجتمع الذي في الحقيقة يدَّعِي الفضيلة ويسير وراء رغباته ونزواته»، كل هذا العمق توسَّط الكاتب إلى تضمينه في رواية عبر تقنيتين: الأولى تقنية التطَهُّر بالكتابة، ففي المقدمة نجد تقريراً طبياً يصف حالة (يوسف حسين) هذا التقرير الذي يفتح الأفق لنا لتلقي ما يقوله (يوسف) دون أن نحاكمه محاكمة حقيقية، لأنه بالأساس ليس عاقلاً، إنه يعاني حالةً متقدمةً من الفصام، فضلاً عن توهُّمَات نوعيَّة ما بين الاضطهاد والعظمة، والهلاوس السمعية والبصريَّة.
والعمل الأدبي في الحقيقة مزيجٌ من التوهُّمَات النوعية والهلاوس السمعية والبصرية، التي يتمُّ إسقاطُها لكي تصبح كلاً متماسكاً، يمكن من خلالها استخراج بناء نصي يعبِّر عن الرؤية الفنية. لقد مرر الكاتب تناقضاته وتخيلاته عبر حالة أشبه بالغفوة بين اليقظة والحلم، والواقع والخيال، مرورًا بمنعطف الأفكار، فنتقبل عبر هذا التقديم للحالة النفسية غير السوية خروج الظلال من بين الحوائط، ونتقبل حضور وانصراف الشخصيات كأنها أشباحٌ تأتي وتذهب وقتما تريد دون ضابط دخول وخروج لها للمشهد– ولعلَّنا لا ننسى أن الكاتب أيضاً له كتابات مسرحية، وقد استفاد من تقنيات المشاهد المسرحية في رسم هذه الصور، لكن مع ذلك تبقى هناك منطقية خفية شديدة التراتبية بين أفكار الشخصيات، وعبر تناوب الحكي رويداً رويداً نستكشف أننا أمام «عقدةٍ وهميةٍ» للرواية.
أقول عقدة وهمية لأن عقدة الرواية الحقيقية هي رفض أهل (أمل) زواجها من (يوسف)، ولا حتى هي الحالة النفسيَّة التي دخل فيها (يوسف) عقب زواج (منصور)- رمز الرأسمالية والحضور النفعي في الحياة- من (أمل)، العقدة الحقيقية هي عقدة التشدد، عقدة اضطهاد هذا المجتمع لذاته، فعندما يضطهد المجتمع ابن القبطية المسلم (ناهيك عن ابن القبطية غير المسلم) فإنه في الحقيقة يقع في فصام ذاتي مع نفسه، فالذي يستحق أن يُودَع المشفى للعلاج هو مجمل أفكار المجتمع، فالكل في رحم الوطن الواحد يجب ألا يفكر بمنظور أن وجوده رَهنٌ بانتقاص وجود الآخر، ليصبح مجمل الحالة في النهاية هو صِراع وجود الوطن بأكمله، فكلما انتقص طرفٌ منهما من وجود الآخر، عمل في الحقيقة على انتقاص وجود الوطن ذاته.
لذا كانت رمزية اللجوء لجلال الدين الرومي وطريقته المولوية المشهورة بتسامحها مع الآخر غير المسلم، هي الحاضرة بطقوسها عندما يحاول (يوسف) أن يهرب من واقعه، والطريف أنه في الوقت الذي تبدو فيه تصرفات (يوسف) من رقص حتى الإعياء والسقوط على الأرض، تصرفات غير عقلانية، إلا أنها في الحقيقة هي ذروة التعبير عن لاعقلانية الاضطهاد الديني، وعدم القدرة على التعايش، محاورات (راحيل) اليهودية التي ترغب في أن تجمع في رحمها بذرة لكل الأديان الإبراهيمية، قد تكون هي أكثر وأدق ما وجد في الرواية من صورة عقلانية محضة، صورة تشذ عن نمط الهلاوس، والتقييد غير المنتظم للذكريات، وكأننا هنا إزاء حالة من حالات الحث على الحوار بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة، تذكرنا بمحاولات التقارب بين الأديان، أو التعايش على أقل تقدير، لكن ما يبدو أن الرواية مفتقدة إليه من منظوري، هي حوارات والد (يوسف) مع أمه، فما ورد منها قليل مقارنة بحالة عشق أسطورية نجحت أن تتحدى سطوة التشدد الديني، كنا بحاجة لمعرفة تفاصيل أكثر عن هذه الحالة التي جمعت في منزل واحد آية الكرسي بجوار الصليب، القرآن إلى الإنجيل، كيف كانت يومياتهما معاً، تلك الحالة لم تلق حقها من بين تفاصيل كثيرة أفرد لها المؤلف الوصف في روايته، ورغم ذلك تبقي رواية «ابن القبطية» من الروايات التي لها حساسيتها الخاصة في القراءة والتلقي والاستشعار بجمالية بنائها الفني الممتزج بمناقشة مشكلات أفكار المجتمع.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى