قصيدة النثر في كساد فادح

حنان عقيل

ينتمي حسن طلب إلى جيل سبعينات القرن العشرين من الشعراء المصريين الذين أطلق عليهم إدوار الخراط “حركة شعر الحساسية الجديدة”، وكان لهم دور كبير في تحطيم الأنماط الشعرية التقليدية محملين بوعي سياسي ومنطلقين من أسس جمالية مشتركة شكلت أسسًا لإبداعهم الشعري.
الرؤية الثورية

“الثورية” ملمحٌ رئيسي في أعمال حسن طلب سواء في انقلابه على التابوهات الدينية أو الجنسية أو في نقد سلطات حاكمة مثلما فعل في ديوانه “عاش النشيد” و”إنجيل الثورة وقرآنها” الذي كتبه عن ثورة يناير. يرى طلب أن الفن كله لا بد له من أن ينطلق من رؤية ثورية؛ على أن نفهم الثورة هنا بالمعنى الواسع؛ ذلك أننا بمجرد أن نمسك بالقلم والورقة فهذا في ذاته مشروع عمل ثوري، موضحًا “ما أقصده بالمعنى الواسع للثورة هو أن النص الجميل في حقيقته ثورة ضد القبح حتى لو لم يكن موضوعه هو الثورة بمعناها السياسي والاجتماعي المحدود؛ وعلى هذا تكون قصيدة الحب الجديدة الجيدة عملا ثوريا أصيلا في حين أن القصيدة التي تتخذ من التمرد أو الثورة السياسية موضوعا مباشرا لها قد لا تكون كذلك.

يتابع طلب “إذا ما استطاع الشاعر أن يجمع ما بين الثورة بمعناها الواسع والثورة بالمعنى الاصطلاحي الضيق فهذا هو غاية المراد، ونحن نعرف شعراء كثيرين نجحوا إلى حدّ كبير في إدراك تلك الغاية؛ منهم مثلا لوركا وبابلو نيرودا وناظم حكمت؛ وفي تراثنا يقف أبوالعلاء المعري بعبقريته الفريدة أنموذجا فذًّا لهذا النوع من الشعر الثوري العميق. وقد حاولت في بعض أعمالي أن أسير في هذه الطريق الصعبة”.
قيمة الجمال

المرأة تحضر بكثافة في نصوص طلب الشعرية تارة هي الوطن، وتارة أخرى الحبيبة والصديقة وغير ذلك. وربما هي أكثر حضورًا في شعره مقارنة بمجايليه. أول دواوينه كان يحمل عنوان “وشم على نهدي فتاة”، وتلاه ديوان آخر بعنوان “باب الصبابات.. فصل الخطاب” يدور حول وجوه الحب المتعددة، وأخيرًا الديوان الذي استلهم الحضور الجنسي للمرأة “يكتب الباء.. يقرأ الجسد”؛ هذا إلى جانب الدواوين الأخرى التي لم تخلُ من حضور أنثوي لافت.

يُبيّن طلب أنه دومًا ما يبحث عن الجمال باعتباره فكرة أو قيمة عليا كالحق والخير والحرية والعدل، ولكننا بطبيعتنا البشرية لا نستطيع أن نتعامل طول الوقت مع الأفكار أو القيم المجردة وحدها؛ بل نحتاج إلى ما يرشدنا إليها ويكون تجسيدا حياً أو تمثيلا عينيا لما ندركه ونؤمن به على المستوى العقلاني؛ وهنا تظهر القيمة الرمزية لجمال المرأة باعتباره الجمال الذي يفتح أمامنا بوابة المجهول لنستشرف سائر مظاهر الجمال الأخرى في الطبيعة أو في الحياة الإنسانية عامة؛ وهكذا نجد الشاعر الصوفي القديم مثل “ابن الفارض” وغيره يقف أمام الحقيقة الإلهية، فلا يجد ما يعبر به عن مطلق الجمال الإلهي إلا باستدعاء رمز المرأة ممثلا في المعشوقات الشهيرات في التراث “ليلى” و”هند” و”مي” وغيرهن.

يستطرد طلب “جمال المرأة هو النعمة الإلهية الكبرى في هذه الحياة الرتيبة المملة؛ وهي نعمة لا يشعر بها ويسبح بحمدها إلا الشاعر أو الفنان عموما؛ الجمال الأنثوي يمنحنا أجنحة لنحلق خارج نطاق الجاذبية الأرضية؛ وينقلنا بخفة ورشاقة من قيمة ‘الجمال’ إلى قيمة ‘الحب’؛ وهذا هو ما ينفرد به عن سائر ألوان الجمال الأخرى في الطبيعة الجامدة.

أما عن الحضور الطاغي للمرأة في تجربتي الشعرية فلعله مردود إلى تنوع حضورها الشعري؛ ما بين حبيبة وملهمة ورمز للوطن كله أو رمز للقصيدة ذاتها أو حتى رمز لله نفسه كما نرى في شعر ابن الفارض مثلا، إلى آخر هذه الوجوه التي يمكن أن تظهر بها المرأة في الفن عامة”.
مظلة الخيال

المصادر التراثية سواء كان ذلك في التراث الشعري أو الأساطير القديمة أو الكتب المقدسة تُشكِّل ملمحًا أساسيًا في أعمال طلب الشعرية يستخدمها بكثافة ملحوظة. ويوضح طلب أن الأمر يتعلق بإدراك العلاقة الحميمة بين ما هو “جميل” وما هو “مقدس”؛ والمثال الناصع هنا هو قول الشاعر العذري قيس بن الملوح في ليلاه:

“أراني إذا صليت يممت نحوها

بوجهي وإن كان المصلى ورائيا

أصلي فما أدري إذا جاء ذكرها

اثنتين صليت الضحى أم ثمانيا”

نحن هنا أمام ثورة فنية في أسلوب التعبير عن الحب؛ يعبر فيهما الشاعر عن حبه لمعشوقته “ليلى” بلغة القداسة! أي اللغة المستمدة من مجال “الدين”؛ فحبيبته موضوع عبادته، وهو يولي وجهه نحوها في صلاته! وربما يتحفظ الفقهاء ورجال الدين المتزمتون على هذا النوع من الشعر ويعتبرونه انتهاكا للمقدس ويفضلون عليه الشعر الذي يذكي العواطف الدينية ويسخِّر نفسه لخدمة الدين.

يضيف طلب “لا أرى أن الشعر والفن عامة مطالب بأن يعمل خادما لتحقيق أغراض دينية أو سياسية لأنه لن يستطيع أن يكون كذلك بدون أن يتخلى عن طبيعته الخاصة؛ فلا يكون بإمكاننا حينئذ أن نسمّيه فنّا بل مجرد مواعظ دينية أو دعاية سياسية. وحقيقة الأمر أن “القداسة” عامة و”الجمال” في الفنون ليسا متناقضين! ولكنهما متحدان لأنهما يستظلان معا بمظلة واحدة هي الخيال؛ ويتحدثان معا بلسان واحد هو “اللغة الرمزية”، ومن هنا تكاد تزول الحدود بين ما هو جميل وما هو مقدس بشرط أن ندرك أن الأول منهما تكون قداسته في جماله بينما الثاني يكون جماله في قداسته!”.

ويتابع “على أيّ حال فإن مسألة استدعاء النصوص الدينية والأدبية في شعري أمر يختلف من تجربة إلى أخرى إذ قد يكون ضروريا ولا مفر منه بحكم بنية القصيدة، كما في ‘زبرجدة الخازباز” التي تواجه التراث كله، أو حتى في ‘آية جيم’؛ بينما لا تكون هناك ضرورة له؛ كما في ‘عاش النشيد’ أو ‘إنجيل الثورة وقرآنها’. ويحدث أحيانا أن يتعرض الشاعر للمصادرة، إذا ما حاول أن يستدعي عناصر لغوية أو مجازية من التراث ليعيد توظيفها؛ وهذا هو ما حدث معي في ديوان ‘آية جيم’ الذي كان يحمل عنوانا فرعيا هو أعوذ بالشعب من السلطان الغشيم.. باسم الجيم”.

ينوه طلب بأن مسألة تجديد التراث على إطلاقه قد تشغل المفكرين والفلاسفة أكثر من الشعراء؛ فالشاعر لا يشغله في المقام الأول إلا الشعر؛ ممثلا في قصيدته التي يكتبها في اللحظة الحاضرة، وإذا ما انشغل بالتراث الشعري فمن أجل تلك اللحظة الحاضرة وحدها. أما مسألة تجديد التراث عامة أو نقده وإبداء الرأي حوله فهو ينشغل بها باعتباره مفكرا أو مثقفا عليه أن يلم بقضايا عصره، وهو انشغال قد يخدم القصيدة بلا شك؛ ولكن بشكل غير مباشر.

جنة الحداثة

يرى بعض النقاد أن شعر طلب خارج عن إطار الشعر الحداثي خصوصًا مع الاهتمام بإحياء الأغراض الشعرية في الشعر القديم وانتماء الرؤية الشعرية لديه إلى القديم.

هنا يلفت طلب إلى أن بعض النقاد يحلو لهم أن يقفوا على أبواب “جنة الحداثة” ليدخلوا إليها من يشاؤون ويبعدوا عنها من يشاؤون قائلًا “أنا لست حريصا على أن أدخل جنتهم؛ أنا حريص على قصيدتي وحدها، بحيث لا أكرر نفسي ولا أكتب ما لا يعبر عن ‘حداثتي’ أنا كما أتمثلها وأومن بها؛ أما حداثتهم التي فصلوها من قماشة مستوردة وبمعايير منقولة بالحرف، ولا فضل لهم فيها إلا النقل الحرفي؛ فهي لا تخصني في شيء. وقد تعرضت بعض قصائدي كثيرا لهذا النوع من النقد السطحي منذ ديوان ‘سيرة البنفسج’ في ثمانينات القرن العشرين؛ حيث رآه ناقد مثل صلاح فضل مجرد محاكاة للزخارف الشعرية الموروثة منذ العصر المملوكي؛ غير أني لم أرد ولن أرد مستقبلا على أيّ نقد جاهز أو معلّب، خصوصًا وقد تكفل نقاد كبار بتوضيح نظرتهم الأكثر عمقًا في أعمالي”.

يمثل الاهتمام باللغة واستخداماتها ملمحًا رئيسيًا لقصائد الشاعر السبعيني وهو ما يأخذه عليه البعض من الذين يرون أن الاستغراق في الألاعيب اللغوية لا يثير مخيلة القارئ ويصرفه عن شعرية النص. يوضح طلب قائلا “ليست هناك وصفة جاهزة يمكن أن تتحقق بها على طول الخط شعرية النص أيّا كان؛ وإنما هناك ألوان من الشعرية قد تتفاوت بين نص وآخر؛ ولكن الذي يجمع بينها كلها هو أن الشعر فن لغوي؛ فاللغة حاضرة فيه لا باعتبارها وسيلة؛ وإنما قبل هذا باعتبارها غاية. لا تكون اللغة مجرد وسيلة إلا في وظيفتها التداولية أو النفعية المقترنة بما يجري على ألسنتنا في الحياة اليومية، أما في الشعر، وفي الشعر بالذات، فالوظيفة الجمالية لها الأولوية. وحين نتحدث عن الوظيفة الجمالية نكون قد اقتربنا من مفهوم ‘اللعب’ بمعناه الجمالي”.
مافيا قصيدة النثر

قدَّمت قصيدة النثر في الوطن العربي العديد من الأسماء الهامة والأعمال المميزة إلا أنها لا تزال موضع هجوم من قبل شعراء حداثيين ينتمون إلى أجيال سابقة عن الأجيال التي تكتب قصيدة النثر المعاصرة. ويشير طلب إلى أن “المتابعة الموضوعية للواقع الشعري يمكن أن ترينا كيف أن أهم الشعراء العرب، والمصريون من بينهم، لم يهجروا قصيدة التفعيلة ليتبنوا قصيدة النثر؛ نعم هناك من زاوج بينهما مثل أدونيس الذي عاد إلى شعر التفعيلة في معظم أعماله الأخيرة؛ ولكن هناك أيضا من ظل على موقفه السلبي من قصيدة النثر مثل محمود درويش الذي لم يستمر في الإبداع من خلال شعر التفعيلة فحسب، بل عاد في بعض أعماله الأخيرة إلى القصيدة العمودية التقليدية، حتى لو كتبها على هيئة الأسطر التفعيلية. ولا يزال أبرز الشعراء في أيّ بلد عربي حتى هذه اللحظة هم شعراء قصيدة التفعيلة، هذا لا يمنع وجود شعراء آخرين يكتبون قصيدة النثر من الأجيال التالية لكنهم بعيدون عن صدارة المشهد على الرغم من أعدادهم الكبيرة نسبيا”.

ويتابع طلب “لا أنكر أن أغلب ما ينشر الآن في الصحف والدوريات الأدبية هو نصوص شعرية تنتمي إلى قصيدة النثر، إلا أن هذه الظاهرة لها تفسير لا يخفى على العين المحايدة فقد انتشر شعراء قصيدة النثر على امتداد الساحة العربية ليسيطروا على الأبواب والصفحات الأدبية في الصحف والمجلات، بل إن بعضهم لم يُعرف على أنه يكتب الشعر إلا بعد أن أصبح له منبر يروّج فيه لنفسه ولزملائه وينال فيه من خصومه؛ ولعلنا نذكر هنا رعب محمود درويش من ‘مافيا’ قصيدة النثر! وربما كان أخطر ما صنعته تلك السيطرة الإعلامية هو أنها أفسدت نقاد الشعر عندنا فأصبحوا يجاملون شعراء قصيدة النثر طلبا للرواج الإعلامي”.

ويضيف “إن هذا الانتشار الكمي لقصيدة النثر لا يمكن أن يعبر عن هيمنة، فالهيمنة قيمة إيجابية تقترن برواج الشعر وازدهاره وكسبه الدائم لأرض جديدة؛ في حين أن ما حدث مع الانتشار الكمي لقصيدة النثر هو العكس تماما، انسحاب متزايد لجمهور الشعر ومحبيه وتراجع مستمر في الإقبال على الندوات والمؤتمرات الشعرية وكساد فادح لما تخرجه دور النشر الخاصة والعامة من الدواوين والمجموعات الشعرية الجديدة؛ أما ما تبقى من جمهور الشعر فقد أصبح لا يستطيع أن يشبع حاجته الجمالية إلى الفن الشعري إلا بالرجوع إلى شعراء الأجيال السابقة بعد أن فشلت قصيدة النثر في إشباع الحاجة الجمالية لذلك الجمهور القليل!”.
خواطر مرسلة

يتذكر طلب تلك المشادات التي أعلن على إثرها أن قصيدة النثر في دول عربية أفضل منها في مصر قائلًا “حين أعلن الشاعر الرائد أحمد عبدالمعطي حجازي أن قصيدة النثر قصيدة ناقصة تعرض لهجمة شرسة من شعراء قصيدة النثر المصريين؛ وذكره بعضهم بموقف عباس العقاد من شعره، حيث أحاله إلى لجنة النثر في خمسينات القرن الماضي. في حالة العقاد وحجازي كان هناك موقف واضح من العقاد ضد الإبداع الجديد، ثم إن هناك دليلا دامغا على أن هذا الموقف لم يكن صوابا بعد أن نجح الشعراء المجددون بقيادة صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي في إقناع الحياة الثقافية بأن الشعر الجديد، أي شعر التفعيلة، يلبي الحاجة الجمالية لقراء الشعر ومحبيه منذ ذلك الوقت حتى اليوم؛ أما في حالة الخلاف بين حجازي وشعراء قصيدة النثر فلا يوجد دليل حتى الآن على الأقل إلا على أن قصيدة النثر قد تجافت عن الذوق العام لقراء الشعر ومحبيه. ورغم رأيه هذا لم يعترض حجازي طوال فترة عملي معه في مجلة “إبداع” كنائب رئيس التحرير على ما كنت أختاره للنشر فيها من قصائد النثر”.

يؤكد طلب على ضرورة التمييز بين الحق الأكيد لسائر المبدعين في أن يجددوا ويجربوا ويثوروا على من سبقهم بل حتى على من يعاصرهم؛ وبين نتائجه المتحققة من جهة أخرى. وهكذا فإن المشكلة ماثلة في القيمة الفنية لما نتج عن ممارسة ذلك الحق من إبداع؛ مستطردًا “أتابع ما ينشر من أعمال شعراء قصيدة النثر بانتظام وأستطيع أن أقول بأسف ولكن بصدق إن الغالبية الكاسحة مما أقرأه لا يجعلني أحس إلا بأنني أمام خواطر مرسلة أو تداعيات وتهويمات مكتوبة بحيث تبدو وكأن أصحابها يجاهدون فحسب من أجل ألا يكتبوا قصيدة تفعيلية بدلا من أن يجاهدوا من أجل إبداع قصيدة نثر حقيقية تقنعنا وتفرض نفسها على أذواقنا، كما في تجربة محمد الماغوط مثلا، وشتان ما بين الجهادين”.
حرية المبدع

يرى طلب أن “التفكير في القارئ أو المتلقي عموما أثناء الكتابة كفيل بأن يفسد العمل الفني لأنه سيتحول إلى نوع من الرقابة الذاتية التي تقيد حرية المبدع وتكبح جماح خياله لغير صالح العمل الفني. صحيح أن الفنان في داخله، يتمنى دائما أن يصل بعمله إلى أكبر عدد من الجمهور ولكنه أول من يعلم في الوقت ذاته أن هذه الأمنية لا يجوز لها أن تتحقق على حساب القيمة الجمالية لعمله. ومن هنا فقد يمضي الشاعر أو الفنان في أحد أعماله بإصرار وتحد على الرغم من علمه بأن هذا العمل بالذات يتوجه إلى جمهور نوعي ضيق إذا ما قورن بأعمال أخرى للشاعر نفسه تكون بطبيعتها موجهة لجمهور أوسع″.

ويتابع طلب قائلا “أنا هنا أقيس على نفسي من خلال تجربتي فحين كنت مشغولا بكتابة نص تجريبي مركب مثل ‘آية جيم’، كنت أعلم أن القلة المبدعة هي وحدها التي أستطيع أن أتوجه إليها بهذا النص؛ بخلاف ما كتبته من قصائد ضد التوريث في عصر حسني مبارك تحت عنوان ‘مبروك مبارك’ مثلا، أو ما كتبته عن ثورة 25 يناير ‘إنجيل الثورة وقرآنها’؛ فكل قصيدة تستدعي قارئها كمّا وكيفا”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى