صاحبة أوّل مكتبة في شبه الجزيرة العربية قبل 125 سنة : عائلة عُبادي وحكاية مكتبة عدن ووقفيّة صنعاء

أحمد الأغبري

ليسَ مُستغرَباً تدشين نشاط أول مؤسسة ثقافية وقفية في صنعاء مؤخراً، فيما البلد يشهد نزاعاً تُزهق فيه الأرواح ويتمدد معه الدمار منذ أكثر من عامين.
تبقى الحياة الثقافية مصدراً للأمل الذي يفترض أن يبقى رصيده أخضر في مواجهة أعطاب الحرب ونزيفها؛ فالأمل وحده كاف لتجاوز المحطات الصعاب في أي تجربة، فما بالك بتجربة شعب تنكّرت كل مكوناته المؤثرة لتاريخه وحضارته، وذهبت تتنازع السلطة والثروة على جماجم ابنائه.
لعل الناشر نبيل عُبادي، وهو ينتمي لعائلة عَدنية مرتبطة بخدمِة الكِتاب منذ 125 سنة -يدرك جيداً هذه الحقيقة، التي ربما تستند إليها تجربته كناشر يمني (يتيم) للكِتاب الإبداعي، منذ أكثر من عشرين سنة، أصدر فيها من خلال «مركز عُبادي للنشر»، نحو 1600 عنوان، مُتصدراً من خلال أصغر مطبعة يمنية، قائمة إصدارات أي منصة كِتاب يمنية أخرى.
وانطلاقاً من هذا الرهان الذي عاشه هذا الناشر مع الكتاب في بلد بلا دور نشر حقيقية؛ لا يمكن الاستغراب أبداً من تدشينه في صنعاء، نشاط اسم كبير ذي مسؤولية أكبر هو «مؤسسة عُبادي للثقافة والعلوم»، بعد عامين من إغلاق المطبعة ودار النشر الخاص به بسبب الحرب… ما معناه أن الحرب التي تسببت في إغلاق نشاط مطبعته، لن تعيق إطلاق مشروعه الذي يأمل أن يُسهم بواسطته، ومن خلال القراءة والكِتاب، إعادة الاعتبار لقيم السلام والمحبة، أساساً للتسامي على الكره والبغضاء… وهو حلم نتطلع إليه بعيون جف دمعها، ونعتقده كبيراً، لأن الأحلام الكبيرة تبدأ غالباً بخطوات صغيرة، وقد تكون غير متوقعة، وأحياناً قد يشك البعض في أهدافها.
وكان الناشر عُبادي قد أعلن قبل عامين عن مشروع «وقفية عُبادي الثقافية»، وبدأ بتنظيم معرض لمخزون منشورات داره، وما حصـــــل عليه كهِبة من آخرين، ضمن سلسلة معارض كان يطمح من خلال عائدات مبيعاتها، لأن يجمع رأس مال الوقفية؛ إلا أنه – كما يقول- لم يجمع سوى مبلغ ضئيل من رأس المال المرجو، بسبب عدم قدرته على مواصلة تنظيم المعارض جراء ظروف الحرب.

أجيال

وقد رمى نبيل من الوقفية والوديعة ضماناً لتحقيق مشروع يطمح لأن يستمر من خلاله – كما أوضح- دَور عائلته الممتد في خدمة الكِتاب، عقب وفاته، باعتباره هو مَنْ تبقى من عائلته مشتغلاً في مجاله ومسؤولاً عن ضمان استمرار هذا الدور ـ على حد تعبيره ـ كجيل رابع لعائلته في هذه التجربة مع الكِتاب؛ وبالتالي فعليه أن يتحمّل هذه المسؤولية، مثلما تعاقب جيلان قبله على إدارة مكتبة عُبادي «الأم» في عدن، خلفاً للجد المؤسس لها عام 1890؛ وهو الحاج عُبادي حسن محمد علوي. وقد صنّف مؤرخون تلك المكتبة، أول مكتبة في جزيرة العرب؛ وهي التي تسلمها من الجد المؤسس جيل ثان ممثلاً في ابنه عبدالحميد عُبادي، أعقبه جيل ثالث تمثل في الحفيد عبداللطيف عُبادي (والد نبيل)، ومنه تسلم نبيل مسؤولية الحفاظ على أرث العائلة، وهي التجربة التي انتقل بها نبيل إلى صنعاء، مع إعادة تحقيق الوحدة عام 1990؛ وظهرت تحت لافتة «مركز عُبادي للنشر» عام 1994؛ وهو دار النشر الذي أحدثَ، بإمكاناته المتواضعة، نقلة نوعية في طباعة ونشر الكِتاب اليمني، خاصة الأدبي الإبداعي، وظهر من خلال إصداراته عدد كبير من الأسماء، التي يعود له الفضل في إظهارها وتكريسها إبداعياً.

المطبعة

تحويل المطبعة ودار النشر إلى مؤسسة ثقافية وقفية معنية بخدمة الكِتاب، هو ما انتهى إليه الناشر نبيل عُبادي كمرحلة متطورة، يرى أنها ستحفظ ديمومة تجربة العائلة في علاقتها الممتدة بالكِتاب كرسالة قبل أن تكون مهنة؛ وفي الوقت ذاته، ربما رآها طريقاً مناسباً لاستكمال جمع رأسمال الوقفية التي ستُخصص لإطلاق جائزتين للكِتاب، ضمن أنشطة المؤسسة. وكانت البداية بتوفير المبنى؛ وهو ما تمّ من خلال عقد وقعه مع وزارة الشباب والرياضة، أوقفتْ الأخيرة بموجبه أحد مباني نادي بلقيس الرياضي (وسط صنعاء) لهذه المؤسسة الوليدة.
تداعى لحضور حفل إشهار «مؤسسة عُبادي» عدد كبير من المثقفين في اليمن، الذين ربما رأوا في حضورهم تعبيراً عن امتنان لهذا الناشر، الذي قدّم وفق إمكاناته المتاحة، خدمات كبيرة للكِتاب الإبداعي، ونال بسببها تكريماً لائقاً من وزارة الثقافة واتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في الفترة الماضية.

المكتبة

لقد وفّر هذا المبنى الجميل، الذي صُمم خصيصاً، كمكتبةً نسوية تابعة لنادي بلقيس، تقسيماً ملائماً لنشاط مؤسسة مَعنية بالكِتاب، حيث خصصت إدارة المؤسسة أكبر قاعات المبنى مكتبة قراءة للجمهور؛ ولعلها تكون أكبر مكتبة وقاعة قراءة تتبع مؤسسة ثقافية غير حكومية في البلد، علاوة على تمتع هذه القاعة بقاعة ملحقة مزودة بالحواسيب وخدمتي الإنترنت والمعلومات.
نقرأ في أدبيات هذه المؤسسة الوقفية مشروعاً كبيراً يحتاج استكماله لمراحل تنفيذية؛ بمعنى أنه من الصعب أن ينطلق بجميع أنشطته المعلن عنها إلا بعد سنوات؛ في حال توفرت عوامل استمرار نجاح هذه البداية.. ولعل مرور المشروع بهذه المراحل التنفيذية، هو ما ارتأه المؤسس عُبادي، حرصا منه على تفادي أي مفاجآت تصنعها الحرب، علاوة على احتياج المشروع لاستكمال رأس مال الوقفية كضرورة لانطلاق جميع أنشطته، بما فيها (المطبعة والجائزة ونادي الثقافة والعلوم) وهو ما جعل من المنطقي – وفق تصور عُبادي- الانطلاق- أولاً- في تدشين المؤسسة، من خلال أنشطة مكتبة القراءة ومعرض البيع الدائم وبرنامج تنظيم الأنشطة الثقافية، كمقدمة لتوفير ما يكفل إنشاء وديعة الوقفية، من خلال مبيعات الكُتب في المؤسسة والمعارض، تتلوها مرحلة الطباعة وإنتاج الكُتب، وهي الخطوة التي ستعقبها – وفق تصور التأسيس- خطوة وضع اللائحة وتشكيل مجلس الأمناء والإدارة التنفيذية، حسب وصية الواقف.
ويؤكد نبيل عُبادي لـ«القدس العربي» على أن المؤسسة وقفية، بمعنى أنها لا تهدف إلى الربح، كما أنها مكرّسة لخدمة أهدافها حتى بعد وفاة مؤسسها، باعتبارها من أجل الناس، وبالتالي فهي لا تهدف إلى تحقيق أي مكاسب، سوى ما يحافظ على استمرار أنشطتها من خلال عائدات وديعة استثمارية. وتسمية المؤسسة والوقفية باسم عُبادي يأتي – وفق عُبادي- تقديراً للأجيال المتعاقبة التي عملت على تأسيس المكتبة «الأم» في عدن، واستمروا في إدارتها ولم يفرطوا في رسالتهم، وظل اسم عُبادي مرتبطاً بالكتاب اليمني والأمل أن يستمر هذا الارتباط.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى