رحل المستشرق دنيس ج. ديفز … وفي قلبه الأدب العربي

سيد محمود

عشت عقداً من الزمن أحلم بصناعة فيلم وثائقي عن المترجم دنيس جونسون ديفيز الذي غيَّبه الموت أول من أمس عن عمر تجاوز 95 عاماً، ليس فقط لأنه قدَّم نجيب محفوظ إلى العالم، ولكن لأن حياته جعلت منه رجلاً عاش ألف عام. تعرفت إليه خلال المشاركة العربية في معرض لندن للكتاب ودعاني إلى زيارة بيته في القاهرة وفتح لي هناك حجرته التي تضم مخطوطات لمشاريع عدة عقب صدور سيرته الذاتية التي ترجمها إلى العربية كامل يوسف حسين لدار «اليربوع».
بدت لي سيرة مثالية لمغامر بريطاني ولد في كندافي عام 1922 وتعرف إلى العالم العربي في أربعينات القرن الماضي واشتعل قلبه حماساً للتعاطي مع هذه المنطقة، انطلاقاً من تصور استشراقي، سرعان ما تحوَّل إلى ولع رسم المسار الرئيس لحياته التي كانت مليئة بمغامرات مثيرة جعلته مِن كبار «الطهاة» في مطبخ الثقافة العربية. فهو الذي ذكره نجيب محفوظ في خطاب تسلم جائزة نوبل في عام 1988 وهو مَن حفز الطيب صالح على كتابة روايته الشهيرة «موسم الهجرة للشمال»، وكان أول من ترجم قصائد لمحمود درويش، ورافق بدر شاكر السياب في أيامه الأخيرة في لندن. وهو كذلك مَن أنجزَ ترجمة الأحاديث النبوية المعروفة بـ «الأربعين النووية»، وقطع شوطاً في ترجمة القرآن الكريم بتكليف من مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ زايد آل نهيان، وقد مُنِح الجائزة التي تحمل اسمه في دورتها الأولى، كما كرَّمه مؤتمر المركز القومي المصري للترجمة في 2009.
عاش دنيس فترة من طفولته في القاهرة ووادي حلفا في السودان، بسبب ظروف عمل والده الذي رغب في أن يتعلم ابنه اللغة العربية، فالتحق بجامعة كمبردج لهذا الغرض، لكنه انقطع عن الدراسة بعد إصابته بالدوسنتاريا‏. ‏ثم التحق بمدرسة داخلية شعر فيها بكراهية دراسة اللغتين ‏اليونانية واللاتينية‏‏. عاد إلى القاهرة و‏أقام في حي السكاكيني، ثم رجع إلى لندن وواصل الدراسة في مدرسة الدارسات الشرقية وزامل المستشرق الأميركي برنارد لويس. وعندما التحق بجامعة كمبردج اكتشف أن عليه دراسة العبرية إلى جانب العربية في فصل تزامَل فيه مع السياسي الإسرائيلي أبا إيبان. من 1941 إلى 1945 عمل في هيئة الإذاعة البريطانية، ويروي في مذكراته كيف استُدعيّ بمكالمة هاتفية إلى دائرة الاستخبارات العربية في قرية ساوث نيونجتون، ليكون رئيسه في العمل نيفيل باربور المستعرب الذي ألَّف من أوائل الكتب عن القضية الفلسطينية. ثم عمل في منطقة البث مع أ‏.‏ هـ‏.‏ باكستون الذي ترجم سيرة طه حسين‏.‏ وفي بدايات عمله في الإذاعة شملت واجباته ما كان يعرف باسم رقابة قطع الإرسال (وقف البث إذا شرع المذيع في التعبير عن عداء لبريطانيا‏). وفي تلك السنوات خاض مغامرته الأولى كمترجم وبدأ بنصوص القاص المصري محمود تيمور، ثم حصل على منحة لدراسة اللغة العربية في مدرسة اللغات الشرقية. عام 1945 عمل مترجماً في المجلس الثقافي البريطاني في القاهرة وارتبط بصداقة عميقة مع توفيق الحكيم، غير أن رؤساءه لم يكونوا راضين عن ذلك، وقال له أحدهم: «أنت موجود هنا لتدريس الترجمة وليس الاتصال بالمصريين»، ولهذا السبب لم يُجدد عقده الأول. التحق بوظيفة محاضر في جامعة فؤاد الأول، ثم استقال لأسباب صحية عام 1949.
بفضل هذه الاستقالة أفلت دنيس من متاعب واجهت زملاءه عندما قامت ثورة تموز (يوليو) وأبعدت بعضهم من الجامعة بوصفهم «ممثلين لسلطة استعمارية». تعرَّف إلى نجيب محفوظ مع صدور رواية «زقاق المدق» التي شرع في ترجمتها ثم توقف لاعتقاده أنه لن يجد ناشراً. غير أنه ندم بعد سنوات عدة، لأن مستعرباً كندياً غامر بترجمتها ونشر ترجمته في بيروت. قبيل حصوله على جائزة نوبل عام 1988، وقَّع نجيب محفوظ عقداً مع الجامعة الأميركية في القاهرة لترجمة أعماله، إلى الإنكليزية عبر دنيس، وساهم ذلك في أن يفوز بالجائزة. ومحفوظ هو مَن قدَّم السيرة الذاتية لديفز «هو أوَّل مَن ترجم عملاً لي، ومنذ ذلك الحين أكن له تقديراً خاصاً، فقد بذل جهداً لا يضاهى في ترجمة الأدب العربي الحديث إلى الإنكليزية وترويجه».
قدم لجمهور الإذاعة البريطانية «يوميات نائب في الأرياف» لتوفيق الحكيم عام 1949 وكاد ذلك أن يتسبب في ترحيله من مصر، نظراً إلى غضب الملك فاروق الذي بلغه أن دنيس ينتقص من شأن مصر بذكره أن اليوميات صوّرت حياة الفقر الذي عاش في ظلّه الكثير من الفلاحين المصريين. ترجم للحكيم كذلك مسرحية «يا طالع الشجرة» لدار نشر جامعة أوكسفورد، ثمّ نشر أربع مسرحيات أخرى له في سلسلة «مؤلّفون عرب» التي كان يشرف عليها. كما ترجم ليحيى حقي قصة «العرضحالجي»، ثم «أم العواجز». ترجم للطيب صالح «عرس الزين»، لكن قلة من القراء تعرف أنه ترجم «موسم الهجرة للشمال» بالتزامن مع قيام الطيب بكتابتها، وكان ينشر ما ينتهي من ترجمته منها في مجلة «أصوات» التي كان يصدرها في لندن.
‏أقام دنيس في العراق حيث عمل مترجماً لدى إحدى الشركات، وصادَق جبرا إبراهيم جبرا وبلند الحيدري ولميعة عباس عمارة وبدر شاكر السيّاب وغسان كنفاني، وظل يحتفظ بحزمة رسائل تبادلها مع الأخير مكتوبة، «بخط واضح منسق». وكنفاني هو مَن رشَّح دنيس لترجمة قصائد محمود درويش وقد صدرت بعنوان «موسيقى اللحم البشري»، وهي تجربته الوحيدة في ترجمة الشعر، التي كان يرى أنها تقتضي أن يتصدى لها شاعر.
وتعرَّف عبر جبرا على الشاعر توفيق الصايغ ونشر له أعماله في «أصوات»، وهو أقرَّ لي بمسؤوليته في توريط الأخير من دون قصد في قضية تمويل الاستخبارات الأميركية لمجلة «حوار»، على اعتبار أنه من رشحه لتولي رئاسة تحريرها. وخلال الثمانينات والتسعينات أعطى دنيس وقتاً أكبر لترجمة أعمال كتاب الأجيال التي أعقبت جيل محفوظ وانتبه بخاصة إلى أعمال محمد البساطي وإبراهيم أصلان ومحمود الورداني وسعيد الكفراوي ومحمد المخزنجي وسواهم.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى