«يوسف بن أيوب» بين يوسف زيدان ويوسف شاهين: الشخصية التاريخية والمآرب الأخرى

محمد عبد الرحيم

منذ أن صدرت آراء يوسف زيدان بشأن «يوسف بن أيوب» المعروف بـ»صلاح الدين» في أحد برامج الفضائيات، ولم تهدأ ردود الأفعال، سواء من قِبل أساتذة التاريخ، أو المثقفين، أو حتى غير المختصين، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي. ويبدو أن زيدان بدوره لا يمل من التصريحات التي تثير الجدل، محاولاً باستمرار أن يصبح في دائرة الضوء من حين لآخر، ولا يقتصر الأمر على التصريحات بل يمتد ويتماس مع إنتاجه الأدبي، وهو ما يتمثل في الاتهامات العديدة باقتباسه روايته «عزازيل» عن رواية إنكليزية بعنوان «هيباتيا» كتبها تشارلز كينغسلي عام 1853 رواية بعنوان «أعداء جدد بوجه قديم»، والمعروفة أكثر باسم (هيباتيا)، التي ترجمها عزت زكي إلى العربية بعنوان «هايبيشيا» ونشرتها دار الشرق والغرب في الستينيات. فكلا الروايتين متشابهتان في كل شيء، الشخوص، الإطار المكاني والزماني، الأحداث، كل شيء في رواية «عزازيل» يطابق رواية «هيباتيا»، لم يزد عنه إلا المخطوط السرياني الذي أضافه عليها. (راجع تفصيلاً آراء كل من كمال العيادي ورؤوف مسعد وعلاء حمودة في عدد «القدس العربي» بتاريخ 28 فبراير/شباط 2017). هذا في ما يتعلق بالكتابة الأدبية، ولكن ماذا عن التاريخ، وهو السؤال الأهم الآن، كيف يمكن التفسير والتأويل بعيداً عن منطق الحدث وزمنه وسياقه، كذلك كيف يمكننا نقد التاريخ الإسلامي والعربي، ومحاولة تجاوز عقباته، إضافة إلى فكرة التقديس من عدمها، والاستغلال السياسي للشخص التاريخي من هذا الفريق، أو ذاك؟ عدة أسئلة أثارتها آراء يوسف زيدان، سنحاول الاقتراب منها بعيداً عن حالة التحيز ــ سواء مع أو ضد ــ قدر الإمكان.

التاريخ وتقديسه

سيظل العرب في حالة من الحيرة إزاء تاريخهم، نظراً لهذا الماضي الإمبراطوري والحاضر الضائع الذي يحيونه، ومن وجهة نظر السلطة الأبوية التي تتحكم حتى الآن في العلاقة ما بين الحاكم والمحكوم، فيبرز التقديس للرمز التاريخي، ومحاولة استمالة هذا الرمز لهذا الفريق أو ذاك، رغم تباين المساعي والمآرب والأهداف. هكذا تصاغ علاقة العرب بحاضرهم، دون نسيان أن مُخيلة العرب التاريخية دينية في أساسها، ومن هذا المنطلق ترسخت صورة ذهنية عن يوسف بن أيوب «صلاح الدين»، القائد الكردي الذي عاش ومارس السياسة وحكم وحارب ومات في القرن الثاني عشر الميلادي، ونال قدراً من التبجيل والتقديس لا يضاهيه فيه أحد. ويصبح الاقتراب منه ــ كأحد أهم الرموز ــ تهديداً لتقويض الرموز الأخرى، وصولاً إلى تهديد المجد المنقضي، الذي يتصل في أساسه بالمقدس وتبعاته.

الشخصية
وسياقها التاريخي

يحاول هادي العلوي في كتابه «شخصيات غير قلقة في الإسلام» أن يرسم صورة مقبولة لصلاح الدين بأنه «من الحكّام القلائل الذين تمتعوا بالشعبية وأحبهم الناس الذين تعودوا على مقت الحكام وتمني زوالهم… كما طبعه الوجدان الصوفي الكردي، فكان تديّنه أقرب إلى رجل عامي منه إلى سلطان». لكن العلوي يبتعد عن التقديس للشخص، ويذكر حوادث تاريخية معروفة، كإعدامه لشهاب الدين السهروردي، فيقول بأنه «الإعدام الوحيد الذي نفذ في التاريخ الإسلامي ضد فيلسوف، تم على يد هذا الكردي العادل». فلم يكن الرجل شريراً شراً مطلقاً، ولا خيّراً خيراً مطلقاً، لكنه تعامل ومنطق عصره، فلا هو مجرم حرب ــ بمفهومنا الحالي ــ كما يراه الشيعة والإيزيديون والمندائيون، وليس أحقر شخصية في التاريخ الإنساني كما يراه يوسف زيدان، الذي يبتعد تماماً عن أي منطق علمي، وليس هناك أحكام قطعية ممكن أن تصدر في حق شخصية تاريخية، زيدان هنا يقتطع الشخصية من سياقها، وينسب بعض الأحداث المغلوطة، كحرق الرجل للمكتبة، وقد أغلقها وباع كتبها، كذلك حكاية قطع النسل الفاطمي بتفريق الرجال عن النساء، هو أمر مشكوك فيه، دون أن يُجمع عليه المؤرخون.

توظيف الرمز
في الواقع السياسي

وتبدو الأهمية في كيفية توظيف الرمز التاريخي لخدمة الواقع السياسي، لتظهر المفارقة في تبني الرمز وتأويل مواقفه في خدمة كل فريق، بداية من الحشد مع أو ضد صلاح الدين وفق الخلفية المذهبية، أو تمثله كقدوة من قِبل الأنظمة العسكرية ــ نظام يوليو/تموز1952 ــ والحركات الإسلامية السنيّة، وكل منهما على النقيض من الآخر. ليصبح رمز صلاح الدين صورة لتصفية الحسابات بينهما. وهنا نلاحظ كيفية صياغة نسق نفعي في سرد التاريخ الإسلامي، بانتقاء ما يمكن أن يخدم موقفا بعينه. كالقائد القومي العربي، الذي سيتوحد العرب تحت رايته، ويسترد القدس ويحرر الأرض، وهو عبد الناصر في العصر الحديث، الأمر نفسه مع خصومه السياسيين الذين أرادوا رسم صورة حالمة أقرب للقداسة لعصور الخلافة المنقضية.
أسطورة المخلّص العربي

بدأ التأصيل المتواتر لشخصية صلاح الدين في الوجدان العربي، منذ بدايات القرن الفائت، بداية من الشكل العروبي ــ الرجل كان كردياً مسلماً، ولم يكن المعنى العروبي قد تبلور بعد ــ وهو ما ابتدعه جورجي زيدان في روايته «صلاح الدين الأيوبي» عام 1914، وفي الثلاثينيات، ستتبنى الحركة الوطنية الفلسطينية صلاح الدين كرمز، وتحتفل بذكرى انتصار الأيوبيين على الإفرنج في معركة حطين، في 4 يوليو من كل عام، وهو تقليد لم يستمر، كما أن المجلات المصرية في الأربعينيات والخمسينيات ازدادت مقالاتها التي تمتدح صلاح الدين، وتعتبره الذي أعاد لمصر مكانتها في العالم الإسلامي. بعد وصول الضباط إلى الحكم تحديداً، وبعد نجاح يوليو 1952 ستتصاعد هذه الظاهرة، وتأخذ الشكل القومي العربي، بما تتضمنه من تشبيه النظام الملكي بدولة الفاطميين، والجمهورية الصاعدة بالناصر صلاح الدين. أما في مرحلة الوحدة بين مصر وسوريا فسيصير حضور هذا الرمز أقوى، باعتباره رمزاً لتوحيد البلدين، تمهيداً لتحرير الأراضي المقدّسة، وهذا سياق فيلم «الناصر صلاح الدين» عام 1963.

ألعاب تزييف الوعي

وبهذا تصبح الشخصية التاريخية في مهب المآرب الأخرى، التي تبتعد عنها تماماً، ويبدو ترسيخ صورتها كيفما يريد النظام السياسي، سواء معها أو ضدها، ولابد من التعرض لفيلم «الناصر صلاح الدين»، الذي يُجمع مؤرخو العصر الحديث على الأخطاء التاريخية الفادحة فيه، فحدث يوليو حمل في أحد جوانبه فكرة الاستناد إلى أسماء واستدعاءات تاريخية، تدعم ما ذهب إليه في الترويج لفكرة القومية العربية، وصنع البطل النموذج، ليسهل خلعه على البطل الراهن، المتمثل في «جمال عبد الناصر»، فكان النموذج المثالي الذي وقع عليه اختيارهم، شخصية يوسف بن أيوب، الكردي السني المحارب صانع النموذج الأبرز للقومية المنطلقة من مصر، بالسيف والدهاء. لتتواتر الأكاذيب التاريخية لخدمة الدراما والتوظيف السياسي، فلا يوجد أثر على سبيل المثال ــ أثر تاريخي ــ لشخصية عيسى العوام، فلم يكن يُسمح للمسيحيين بالمشاركة في جيوش صلاح الدين، فهم أهل ذمة، يدفعون الجزية ولا يحاربون، كذلك ترديد مقولة العرب في الفيلم، حيث لم يكن مفهوم العروبة قد انوجد وقتها، حتى يتم الترويج له بهذا الشكل المباشر والفج. وبغض النظر عن السيناريو الذي شارك في كتابته كل من عبد الرحمن الشرقاوي ونجيب محفوظ، والقصة للضابط السابق يوسف السباعي، والإخراج ليوسف شاهين.

مشكلة يوسف زيدان

لن تكون هذه آخر تصريحات يوسف زيدان التي ستثير الجدل، وهو محترف إثارة من الدرجة الأولى ــ بغض النظر عن نسبة صحة الادعاءات من عدمها ــ ولكن ما الجدير بالمناقشة في اللحظة الراهنة، التي يعيشها الشعب المصري، هل تكمن المشكلة في إعادة قراءة تاريخ صلاح الدين؟ أم النظر في أحوال النظام الحاكم الآن في مصر، من ظروف اقتصادية هي الأسوأ، والمناخ البوليسي الذي يحكم قبضته على كل مخالفيه، وعن موجات الاتهام بالتكفير، وسجن كل مَن اختلف في الرأي؟ مشكلة زيدان ومَن هم على شاكلته أنه يتباهى بالتفكير الحر، وهو زائف وموظف بدوره لخدمة النظام الحاكم، وما كان يسخر منه في فيلم سينمائي، صار يقوم بتمثيله في الفضائيات بشكل آخر.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى