عودة للكاتبين… محمود حسين: «تحدّي الآلهة»: كتابة السياسة والزمن في السجن المصري

حسن داوود

أن يُكتب، في التعريف بالكتاب، أن كاتبه «محمود حسين دفع ثمن انتمائهما السياسي» فليست تلك التثنية خطأ مطبعيا. ذاك أن الاسم يجمع بين كاتبين لقيا شهرة واسعة في أوساط اليسار العربي، ابتداء من آخر ستينيات القرن الماضي، إثر صدور كتابهما «الصراع الطبقي في مصر». بهجت النادي وعادل رفعت ما يزالان محمود حسين، عائدين برواية هذه المرة، صدرت بالفرنسية، شأن كتابهما الأول ذاك. وهما، من محل إقامتهما في فرنسا، رجعا بروايتهما إلى مصر أواخر الخمسينيات وسنوات الستينيات التي تلتها، ناقلين بها تجربة السجن، باستعادة فصول مما يمثّل شبه سيرة ذاتية لبطلها.
وعلى غرار الصلة التي تقيمها السيرة بين كاتبها وبطلها، يبدو لنا أن الكاتب محمود حسين، يروي حكايته الخاصة هنا. وهذا ما قد يضع قارئها في موقف مرتبك، متسائلا، مرّة بعد مرة، سيرة أيّ من الاثنين هي هذه؟ ثم هل هما الاثنان حاضران في الرواية، كأن يكونا بطلها ورفيقه في السجن «أنور»؟ ثم، فيما يتعلّق بعملية الكتابة نفسها، كيف تمخّضت ذاكرتان اثنتان، ومخيّلتان اثنتان، وقلمان اثنان من ثمّ، عن كتابة ينبغي أن تكون، في أصلها، صدى لنفس واحدة؟
هناك سابقة على ذلك في الرواية العربية، وهي «خطوط الطول – خطوط العرض» التي اشترك بكتابتها كل من عبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا. آنذاك، في السبعينيات على الأغلب، كانت تلك الرواية مثارا لدهشة قارئيها وحيرتهم إذ كيف يمكن أن تؤلّف سيرة روائية بطلُها انبثاقٌ لشخصية كاتبها وفكره فيما يتنازع شخصان على كتابتها. وقد قال لي عبد الرحمن منيف عن تداوله مع جبرا على كتابتها آنذاك، بأن كلا منهما كان يكتب فصلا منها، ثم يرسله إلى شريكه ليكتب الفصل التالي، هكذا بما يشبه امتحانا يجريانه بالتناوب، ومرّة بعد مرة، على أن يكون ما يكتبه كل منهما مطابقا في لغته وأسلوبه وتطوّر أحداثه… إلخ، لما سبقه الآخر إليه.
أما عن رواية «تحدي الآلهة» للثنائي محمود حسين، فلم نعرف على أي شكل جرت المشاركة بكتابتها. هنا، في الرواية، الكاتبان ليسا إزاء عمل تصنيفي تحليلي، كما كان الحال في كتابهما الأول. ثم أن موضوع اشتغالهما في ذلك الكتاب كان خارجهما، وهو «الصراع الطبقي في مصر». أما هنا، في الرواية، فنقرأ عن حياة رجل واحد، عن مشاعره ومخاوفه في السجن، وعن تدريب نفسه على احتمال ما قد يستجد عليه فيه، كما نقرأ عن حميمية علاقته بأهله وأمكنة إقامتهم بين القرية والمدينة، وكذلك عن الجامعة ودراسة الطب التي أوقفها السجن، وعن علاقة طالب الطب السجين بحبيبته نادية، التي ظلت تراسله، يوما إثر يوم، حافظة له الوعد، على الرغم مما هو متاح لها، هي المتميزة بجمالها وثراء أهلها.
هي سيرة الإقامة السريعة في السجن، أو السجون التي تنقّل بينها بطل محمود حسين حتى بدا ذلك التنقّل حاضرا بقدر حضور حياة السجين في سجنه. وبين هذه وتلك لا دلالة على شيء شخصي في ما شاهده، أو عاناه هذا السجين. في أدب السجون المصري قرأنا كيف كانت تغلب التجارب الخاصّة على السرد العام. وفي كتب السجون التي قرأناها بالتلازم مع حروب الربيع العربي، وبينها كتابا فرج بيرقدار ومصطفى خليفة، قرأنا ما لا يمكن احتماله، بل تخيّله، من توحّش. وكل ذلك موصوف ومتعيّن بالتفاصيل الأكثر قسوة، التي لم يسبق أن قرأنا ما يدانيها في أدب السجون في العالم. (من ذلك مثلا أن كتاب ليسكانو عن السجن في أمريكا اللاتينية بدا، مع تلازم صدوره بالعربية مع كتاب مصطفى خليفة «القوقعة»، كأنه وصف للتعذيب لما كان قد وصف سابقا). وإذ نذهب إلى المقارنة بين سجن الخمسينيات، والسجون العربية الآن، يتراءى لنا بأن تقدّم الزمن يلازمه تلازم في وحشية سلطاته، كأن هذه الوحشية تتطوّر مع توالي السنوات، كمثل ما نشاهده من تطوّر في الأفكار والاختراعات.
وهذا هو حال كتاب محمود حسين، إذ لا ملمح لعيش تجربة خاصة في السجن، ولا شيء في السجن يتطلب العودة إليه بعد ما تلا من تجارب قرأناها عن الحياة في السجون العربية. في «تحدّي الآلهة» نحن إزاء سجين سياسي عادي في سجن عادي، ودائما بالمقارنة مع ما قرأنا في السنوات القليلة الماضية. لكن المهم هنا هو الجانب الكتابي، الروائي، حيث بدت تجربة الاعتقال متراوحة بين اليأس والأمل، بمقادير متساوية. وما ينطبق على تجربة السجن ينطبق أيضا على تجربة الغرام، التي شعارها الوفاء. فهنا أيضا لا شيء يتقلقل أو يتذبذب أو يتحوّل، بل إن الشك بنسيان الحبيبة للحبيب سرعان ما يتكشف عن مزيد من الوفاء له. ولنضف إلى ذلك التفاصيل الأخرى لعيش بطل الرواية، وما هو مختلف عليه في السياسة بين التيارات اليسارية، وأيضا حياة الجامعة كيف كانت في ذلك الزمن.
هي كتابة عن ذلك الزمن، بل عن جيل ذلك الزمن السياسي وقد زُجّ عشوائيا في السجون. أما بطل الرواية هنا فيبدو أقرب إلى أن يكون مثالا عن ذلك الجيل، وهذا ما جعل ملامحه وتجاربه قليلة الشخصية وقليلة الخصوصية. ربما يعود ذلك إلى أن الحاصل بين متفّقين اثنين على «خلق» بطولة واحدة لن يبلغ العمق الذي يستطيعه فرد (كاتب) واحد. كان الأجدى أن يحدث الانفصال بين المتفّقين منذ نحو خمسين سنة، هذا في ما يخصّ كتابة الرواية.
رواية محمود حسين «تحدّي الآلهة» صدرت منذ أيام عن «دار الجديد» بترجمة عن الفرنسية لأحمد علي بدوي في 155 صفحة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى