عبدالرحيم جَيران في «سيرة شُرفة»: قصيدة الهوية المنهوبة

أنطوان ابو زيد

لم يسبق لنا، نحن قراء الشعر العربي الصادر في المشرق العربي، أواخر التسعينيات من القرن الماضي، وأوائـــل القـــرن الحادي والعشرين، أن قصدنا إلى التعرّف إلـــى الشعر العـــربي الصــادر في المغرب العربي، من أجل أن نكـوّن تصـــوّرا عن الذائقــــة الشعـــرية وآخر الانتاجات في الشـــــعر.
عبدالرحـــيم جَيران هو من الأصوات الأدبية المغــربية المخضرمة، وقد جرّب القصة والرواية والنقد الأدبــــي، وـــها إنه يجرّب الشعر، لا عن قلة دراية فيه، وإنما استكمالاً لمسار الإبداع الذي انتهجه منذ البدء.
الكتاب الشعري بعنوان «سيرة شرفة» (دار النهضة العربية)، يكاد ينضوي في باب القصائد الطويلة ذات الأناشيد أو المشاهد على ما كنّا بينّا وجودها في الشعر العربي الحديث والمعاصر، وذلك في دراسات لنا سابقة. يستهلّ الشاعر كتابه بـ «تصدير» أو تمهيد، قصد به الإشارة تلميحاً إلى موضوع كتابه الوحيد، عنيتُ «الشرفة»، فيعرّف بها تعريفاً يقرّبها من الأحجية أو اللغز.
إلاّ أن المستفاد منها أوصاف تنطبق على شرفة واقعية، لمنزل في مدينة عربية، يطلّ منها الساكن في الدار على سائر المدينة، ومن حيث تنفتح الذات على العام، وتسائل نفسها عن دورها في الزمن الجارية حوادثه وآوناته على مبعدة منها. والأحرى أنها، أي الشرفة، نظير زاوية النظر، بل المنبر الأعلى من موضوع النظر، في ما يشبه تقنية «الغطسة» أو بالفرنسية plongee، وهو مصطلح مستعار من معجم مصطلحات علم التصوير الفوتوغرافي، والذي يستفاد منه الإطلالة المستعلية على موضوع النظر، وههنا مسألة الاستلاب التي يحياها المجتمع المغربي حيال الغرب وفقدانه هويته وأصالته،الى جانب مسألة فرعية بل مسألة متضايفة وهي يقين الشاعر بأنّ هويته كفرد، كاتباً ومثقفاً ثقافة شرقية وغربية ومبدعاً، هي هوية التيه والسفر والتجوال في أقاصي
الأرض. «لكنّها من حيث الكيان هي مأوى لتاريخ لم يعرف كيف أن يكون تاريخاً، كلّ ألمها أنّها لم تكن شبيهة بالعام بل بالسنة..» (ص6).
وبمعنى ما قصد الشاعر عبدالرحمن جَيران أن يستهلّ كتابه بالتلميح، وإن من طريق الرمز والكناية، إلى الموضوع المحوري الذي سوف يعالجه في القصيدة– الكتاب الشعري، والذي مفاده هوية المدينة (العربية) وصلة الذات (الشاعر) الملتبسة بها، بل المتحوّلة بتحوّل الزمن والذائقة العامة تحوّل امّساخ وتشوّه واستلاب، لا تحوّل ارتقاء وتصعيد. وحالما يدخل القارىء أرض الأناشيد الواحد والعشرين، التي يتألّف منها الكتاب، يطالعه النداء «سيّدتي» مفتتحاً به كلّ نشيد، مكنّياً به عن الشرفة التي سلف الكلام على دلالاتها.
ولو نظرنا إلى النشيد الأول (ص7) لوجدنا الشاعر يصف حال المدينة (العربية، المغربية)، إذ يقول عنها «أبوابكِ منتهكة «للدلالة على فقدانها سيادتها، أما حارسها فلا يكون «غير إبرة منطفئة ؟» للدلالة على انعدام فاعلية الأداة الوحيدة التي يمتلكها ذو الأصالة من أبنائها، عنيت الإبرة، وعند المشارقة «المخرز» لمقاومة المحتلّ والغاصب وغيرهما.
ولو تتبّعنا الأناشيد التي تتألف منها القصيدة- الكتاب، لوجدنا الشاعر ساعياً إلى تنمية عالمه عبر محورين، بل عبر ثنائية جدلية قوامها: هوية الأنا الشعرية / حيال هوية المدينة المكنّى بها عن الأمة، الوطن الكبير.
ولكنّ لا يظن القارىء أنّ تلك المعاني وأنّ تلك الرؤية متوفّرة في النص بأيسر سبيل، وإنما ينالها القارئ من خلال ربط معاني الصور الشعرية والرموز التي لا يتوانى الشاعر عن إيرادها على مدار المشاهد الشعرية السالف وصفها، «لستُ ابنَكِ الأوّل/ ربما كنتُ لقيطًا/ أو نيّةً في ضمير الأشياء»، «فلستُ نبيّكِ المنتظر،/ ولا كتابَ لي / ولا معجزة»، «من أنتَ هوياتٌ لم تتصالحْ،/ أرجوحةٌ في الهواء..» والتنبّه إلى التكرارات– اللاواعية من قبل الشاعر- التي يحمّلها قسطًا من رؤيته وعنيتُ بها اعتبار هويّته ككائن مفرد في وسطه المشرقي– المغربي ملتبسة ( «نحن هنا-الآن/ ورثةُ الالتباس»، ص16) وعرضة لكلّ صنوف التخاذل والاحتيال («للحقد،/للكراهية / للشعر الذي يحمل أسماءه الأغبياءْ/ للسرقات غير الموصوفة …») أو لكلّ ما يجعل من هذا الكائن شخصاً مجرّداً من الفاعلية (أخرس، في مقابل هوية الأنا، ثمة هوية المرأة – الذات الأخرى، تكاد تكون أقرب الى المستلِبة (بفتح اللام)، ذلك أنّ الشاعر جيران، يؤدّي في صورة «الشرفة»، لعبة المرآة المربّعة الأضلع ؛فمرة يوحي بأنها نظير المجتمع،(«سيدتي/ إنسي قليلاً /أنكِ سليلةُ المجدِ» ص18) الذي يطلّ «على عالم يهرب منكِ»، وحينًا آخر يوحي بأنها نظير الأمّ التي تتوالى أمامها، وفي غيابها، لحظات طفولته («ما زلتُ طفلاً يحلم قرب ظلّ القمر»، ص25)،وأحياناً أخرى هي ذاته الواعية المستذكرة سيرته («سيّدتي ../ هل كنتُ أنا الشرفة، تطلين من عينيّ/ على سفحي الممحل؟ لا حاجة لكِ لدفاتري كي تعرفي سيرتي»…، ص50).
وعلى هذا النحو، يواصل الشاعر عبدالرحيم جيران بسط رؤيته الشعرية، وإن في غنائية مواربة ولكن دالّة على أزمة كيانية تعصف بالنفس والعالم الذي يصدر عنه. أما الشخصيات الثقافية التي يتوالى ذكرها عبر القصيدة– الكتاب، من مثل السندباد، والثعالبي، والمتنبي، والطبري، لوكريتيا، دولسينيا، جون فالجان، أنكيدو، أرسين لوبين، كونفوشيوس، غوركي، جان جوريس، بورخيس، وغيرهم، فهي أدعى أن تكون إشارات ذات وظيفتين: الأولى للدلالة على صدور شعرية الشاعر عن مرجعية معرفية موسوعية غير محصورة بالزمن المعاصر، والثانية لشحن موضوعة الاستلاب والاغتراب والأصالة وعيش الحلم وغيرها بالكثير من الدلالات، وبلغة شعرية نثرية تحاذي الشعر الحرّ ولا تتقاطع معه.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى