أطفال اليمن في «روايات صادمة» عن الحرب بأفكار خضراء
أحمد الأغبري
لم تخل لوحة من لوحات ورشة فنية حرة للأطفال شهدتها صنعاء مؤخراً من دلالات عميقة ومباشرة عن معاناة أطفال بلادهم وحاجتهم الماسة للسلام وتجاوز جراح الحرب النازفة. وتبرز قيمة معرض الورشة فيما روته اللوحات من شهادات قاسية ترجمتها فرشات بريئة قال من خلالها (الصغار) شهاداتهم ومن ثم عادوا لبيوتهم مثقلين بأحزانهم وأحلامهم ومزدانين، أيضاً، بأفكارهم الخضراء في وجه العتمة.
ربما أن عين العالم لم تع بعد حقيقة ما يعانيه أطفال بلد فقير كاليمن جراء تداعيات حرب ضروس ليس على صعيد العوز وسوء التغذية والأوبئة التي تفتك بالكثير منهم فحسب، بل أيضاً على صعيد أمراض أخرى (أكثر قسوة) على المستقبل ويعانيها الأطفال بعيداً عن الأضواء؛ وهي الأمراض الناجمة عن العيش تحت القصف وفي أجواء خوف يومي من الموت تحت الأنقاض؛ متسببة بإعاقات خطيرة مازالت مغيبة عن الاهتمام الاحصائي والإعلامي للأسف؛ ويمكن مشاهدته بوضوح في عيادات الأمراض العصبية بصنعاء، التي تعج، يومياً وفي مشاهد مؤلمة جداً، بأعدادٍ كبيرة من الأطفال الذين باتوا يعانون جراء تعرضهم لنوبات الهلع المتكرر أمراضاً تحتاج لبرامج علاجية قد تستمر لسنوات ما لم فهم سيمثلون أرقاماً إضافية لاحتياجات خاصة جنباً إلى جنب مع ضحايا المعارك من الأطفال في الجبهات والذين يسقطون يومياً موتاً أو إعاقة سيدفع ثمنها البلد مستقبلاً صعباً.
15 طفلاً وطفلة منهم خمسة أطفال من مركز لذوي الاحتياجات الخاصة بصنعاء استضافتهم مؤسسة بيسمنت (القبو) الثقافية بصنعاء في ورشة فنية للسلام نظمتها مؤسسة إبحار للطفولة بدعم من منظمة (Peace Direct)، ورسموا خلال 20-21 أيار/ مايو تحت عنوان ” أفكار خضراء، عالم ملون” ثلاثين لوحة عبرت عن مكبوت آلامهم وأحلامهم في واقع يعيش حرباً انهارت معها البلاد ودفع فيها الأطفال على ما يبدو أكبر نسبة من فاتورتها الإنسانية.
ووفق بيانات منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسف” فإنه يموت في كل عشر دقائق طفل في اليمن جراء تداعيات النزاع الراهن.
ذاكرة جريئة
كان تفاعل الأطفال لافتاً وأكثر تميزاً فيما أنجزوه من لوحات عبرت بقوة عما يعيشه البلد؛ وعكست بشكل غير متوقع ذاكرتهم القوية تجاه ما عاشوه ويعايشوه من آلام، لدرجة لم تتجاوز لوحاتهم حتى ضحايا وباء الكوليرا الذي ضرب مؤخراً في موجته الثانية الاف الضحايا بين موتي وإصابات كثيراً منهم أطفال… كما لامسوا ما عاناه وتعانيه العائلات في المنازل والنازحون في المخيمات، بل بلغ الأمر قسوته في تصوير مشاهد الموت والهلع تحت قصف الطائرات؛ ومثل هذا التجلي التعبيري (المؤلم) قد يبقى طبيعياً في لغة فرشات الأطفال؛ فالطفل يبقى أكثر وضوحاً ومصداقية ونقاءً في رسوماته من أي فرشاة أخرى تعبيراً عما يجيش ويحتشد في الداخل من صورٍ ومعانٍ (بلا براويز)؛ فضربات فرشاتهم لا تخضع لأي حسابات مسبقة، بل إنها تتجلى كإشراقة شمس صباح كل يوم، محمّلة بما يعتمل في الروح ببساطة وقوة في آن؛ ومن هنا تأتي أهمية مثل هذه الورش، بل وتبرز قيمتها الحقيقية واضحة في استضافة مجموعة من الأطفال في هكذا منشط خلال حرب مازالوا يعيشون آلامها ويشهدون نزيفها يومياً، ما يجعل من لوحاتهم شهادات حية بل وأيضاً رسائل صادقة لا تحتمل التأويل، كما تبقى، في ذات الوقت، توثيقاً ممهوراً ببراءتهم وجديراً بالاستناد إليه في قراءة مرحلة من مراحل الموت والدمار في تاريخ شعب عربي قصي.
منسقة الورشة الفنانة غادة الحداد قالت لـ “القدس العربي” إن تنظيم هذه الورشة مع المعرض الذي ضم أعمالهم جاء انطلاقاً من قناعات راسخة بما يتعرض له الأطفال في اليمن وأهمية أن تتاح لهم الفرصة من خلال هذه المتنفسات الفنية للتعبير عن رؤاهم وتطلعاتهم؛ فالأطفال هم الأكثر قدرة على التعبير الشفاف والنقي والواضح عن مكنون نفوسهم؛ علاوة على قدرتهم على الإحساس بالصور في دواخلهم والتعبير عنها بوضوح وفق فلسفة فنية تخص الطفل وحده، دون أي مخاوف أو موانع؛ وبالتالي فإن الفن يمثل أهم قنوات التنفيس الطفولي في المراحل الصعبة من حياتهم.
رواياتهم ورؤاهم
من خلال موضوعات رسوماتهم كان تأثير الحرب واضحاً حتى تكاد جميع الرسومات تتحدث باكية بما فيها تلك اللوحات الباسمة الحالمة؛ فالجميع يكتب روايته عن الحرب وفق اتساع الرؤية ليتفق الجميع بلا استثناء بضرورة إيقاف الصراع وعودة السلام لحياتهم تحت سماء التعايش والتسامح؛ فوطأة الحرب كانت وفق رسوماتهم شديدة عليهم، وعلى الرغم من ذلك كان الأمل والحلم بالسلام أكثر حضوراً سواء على سطوح الأحلام أو في مكنون الآلام، فلوحة السفن في بحر مضطرب الأمواج تكاد يبتلعها لم تخل من شاطئ ستصل إليه تحت ظلال راية البلاد، كما كانت لوحة المخيمات التي تعرضت لقصف الطائرات على ما فيها تصوير بريء و قاس للموت والضحايا إلا أن ألوانها وأشكالها كانت محمّلة بالبهجة والأمل؛ وكأنها هي الرسالة الحقيقية التي يجب أن تصل للعالم موقعة ببراءتهم لعله يفهمها جيداً ليتحرك لإيقاف النزاع الدائر ولملمة جراح البلد ومساعدته على استعادة السلام… بلا شك إن هؤلاء الأطفال يرسمون وهم لا يعون أنهم يكتبون برسوماتهم رسائل للعالم، كما ربما لا يهتمون أن تصل رسائلهم، بل ولا يعلمون – أيضاً-أن رسائلهم قد تصل ويجيد العالم قراءتها؛ لكنهم في ورشة حرة يرسمون فقط بدون أي قيود، وفي الأخير يعودون إلى بيوتهم بعد أن قالوا رواياتهم عن الحرب… أما مسألة قراءتها فقد لا تهمهم كثيراً بمقتضى صدق ونقاء أرواحهم.
كونفاس
فيناً تميزت الورشة في أنها وضعت الأطفال المشاركين وجهاً لوجه و ربما لأول مرة أمام الاشتغال المباشر بألوان “الأكريلك” على لوحات “كونفاس” دون وضع “اسكتشات” ورقية مسبقة، وهي قد تكون تجربة جديدة على معظمهم وربما أكبر من أعمارهم التي ماتزال أكثر ارتباط بالأوراق أقلام الرصاص في علاقتهم بالرسم… وعلى الرغم من ذلك استطاعوا تحت إشراف فنانين تشكيليين بارزين ومدرسي تربية فنية إن يتجاوزوا مخاوف التجربة وأن ينجزوا رسوماتهم بدون قيود وبمستوى أدهش المشرفين الذين لم يتدخلوا في تحديد أو توجيه أفكار وميول الأطفال باستثناء ما تحتاجه مهاراتهم الفنية من توجيه تقني على صعيد الاستخدام اللوني والبناء الشكلي للوحة.
قد لا تؤتي هذه الورش ثمارها في حال انقطعت ما يجعل من تواصل تنظيمها جهداً مطلوباً لتمكين المجموعات من التسلح بمهارات تعزز من علاقتهم بالألوان والفرشاة وبما يجعل منهم مشاريع لفنانين واعدين. وهنا تشير غادة الحداد إلى أن ثمة ورش أخرى مكرسة لمواهب الأطفال باتجاه أفكار السلام.
(القدس العربي)