‘بنتين من مصر’ فيلم الجمال المصري

فريد لطفي أحمد
ليس هناك فيلم بعنوان “الجمال المصري”، إنما المعروف هو فيلم “الجمال الاميركي” الذي أخرجه سام مينديز عام 1999، وحصل على خمس جوائز أوسكار، وهو فيلم صادم فيه نقد شديد لأسطورة الحلم الأميركي، وكشف عن التفكك والخلل الذي أصاب الأسرة والمجتمع في الدولة التي أصبحت قطب العالم الأول، وسيدة الزمان الجديد.

وقد حاول الكاتب والمخرج المصري محمد أمين أن يحقق في مصر شيئاً مما حققه الفيلم الأميركي في رصد الواقع ونقده، على نهج يتفق مع طبيعة المجتمع المصري وقيمه وخصوصياته، تحقق له ذلك في أفلامه: (فيلم ثقافي) و(ليلة سقوط بغداد) و(بنتين من مصر) و(فبراير الأسود)، ولعل أجملها فنياً وأصدقها في التعبير عن فكرته، هو(بنتين من مصر)، وأنا في الحقيقة لا ينقضي إعجابي بهذا العمل الرائع، شاهدته مراراً وكتبتُ عنه كثيراً، وأعود إليه دائماً لأتأمله.

فهو يمس أوجاع المواطن المصري في صميم الصميم منها، ولأن البطولة والقصة فيه نسائية، فهو صالح بامتياز، للتعبير عن الحلم المصري أو الجمال المصري وتحولاته مع اختلاف الزمان.

وقد استعمل المؤلف بعض العناصر الفنية بشكل رائع في وصف المأساة وأجاد في استخدامها، فمشهد المطار المتكرر يعكس الشعور بالقهر والرغبة في الانعتاق والفرار، كما أن دوال الأسماء أسهمت في شرح المأساة وتلخيص الفكرة فـــ “حنان” تفتقد الحنان، و”زهرة الصبار” و”اللامنتمي” يدلان على جفاف الواقع ومرارته، واستلابه أكرم المشاعر وهو (الانتماء) من نفوس الشباب، مما يصيبهم بالعزلة، ويجعلهم كالبذور النابتة في الهواء!

والعريس الذي جلست البنتان تنتظرانه في المطار في المشهد الختامي للفيلم هو الــــ “سعد” الذي ربما لا يأتي، وإن جاء فسيكون لإحداهما دون الأخرى.

وفي الفيلم ثلاث شخصيات باسم “جمال” مروا جميعاً بحياة البطلة الطبيبة (داليا) التي ترمز إلى (مصر)، وإشارات هذا الاسم متعددة متنوعة تحمل كثيراً من الدلالات النفسية والاجتماعية والسياسية، فهي تشير إلى مقابلة ضدية تجمع بين “جمال عبدالناصر” و”جمال مبارك” الأولى تشير إلى زمن العزة والكرامة ــــــ في رأي المؤلف ـــــ الذي انطلقت فيه الصرخة الشهيرة “ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد” والأخرى تشير إلى الفتى المدلل الذي أراد والده أن يفرضه على المصريين، والذي كان يتم تلميعه قبل فترة إنتاج الفيلم (عام 2009) بسنوات من أجل الدفع به في رئاسة الجمهورية.

الشخصية الأولى طبيب شاب تحول إلى عميل لأمن الدولة، فأصبح جزءاً من منظومة الفساد، ويبرر فعلته لنفسه ولفتاته بأن البلاد قد أصبحت على المنحدر، ولن يجدي في إنقاذها أن نكون شرفاء أو مخلصين.

وجمال الثاني شاب متمرد ثائر تعرض صديق له للتعذيب في أحد أقسام الشرطة، فرأى متنفسه وخلاصه في رفض الزواج والانعزال عن المجتمع، والهرب من الواقع إلى العالم الافتراضي، لكنه بعد غرق العبارة المصرية يخرج عن صمته ويكتب مقالاً نارياً في تصوير المأساة، ونقد من تسبب فيها، ويكون الاعتقال هو المقابل الذي يدفعه ثمناً لكلمته التي جاءت بعد صمت طويل.

أما الثالث فمهندس زراعي قرر أن يستثمر علمه وشبابه في عمارة الصحراء، عمل عظيم وخدمة للوطن جليلة، ويزداد تقديرنا لهذا الشاب عندما نراه يهدي لخطيبته أول ثمرة طماطم تخرجها أرضه، لكن الصورة لا تكتمل إلا عندما نذهب معه في رحلة إلى الصحراء لنرى مع عروسه مسكن الزوجية السعيد. مساحات شاسعة بلا مرافق، ولا أي خدمات. حيَّات وعقارب وموت محتمل في كل لحظة.

لقد أعطت الدولة الأرض للشباب وتركتهم يقاسون في زراعتها الويلات، ورغم هذا ترحب الطبيبة الشابة، وتعقد العزم على أن تقيم عيادة طبية تعالج فيها أهل الصحراء، ويفرح “جمال الثالث” وعروسه ويصفو لهما الزمان.

لكن مهلاً… فلا يلبث جمال أن يعجز عن سداد قروض البنك وفوائدها المضاعفة، ويَصدر الحكم بسجنه، فلا يجد أمامه سوى الهرب، وفي المطار يكون مشهد الوداع. حلم لم يتم، وحياة إنسانية شديدة البساطة لم يسمح بها الزمان المصري.

لقد هرب جمال الثالث، وسجن الثاني، ولم يبق سوى جمال الأول الذي باع نفسه من أجل المنصب، بقي يعد على زملائه أنفاسهم، ويكتب التقارير السرية، ويعاقب الجميع بذنب الواحد. ويقدم أهل الثقة على أهل الخبرة، ويشيع في الآفاق أجواء التفرق والشقاق.

هذا هو الجمال المصري بوجهيه الحقيقي والزائف، جسّده محمد أمين في لغة سينمائية شديدة العذوبة والرقة، ولولا مقص الرقيب لرأينا من فنه ما هو أصدق وأدق في رصد الواقع والتعبير عن الحال.

(ميدل ايست أونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى