ميشال أونفري: انهيار الحضارة الغربية أمر لا مرد له

حميد زناز

كل الحضارات ذائقة الموت، إذا ما صدقنا نبوءة بول فاليري الشهيرة بما فيها الحضارة الغربية إذ دقت بداية نهايتها حسب مواطنه المعاصر الفيلسوف ميشال أونفري. فهل التحق فيلسوف المتعة اليساري بقافلة المفكرين المحافظين وبات يتحسر على مصير حضارة يهودية-مسيحية تعيش أعمق أزماتها الاقتصادية والأخلاقية والسيكولوجية.

ميشال أونفري من أهم الفلاسفة اليوم في فرنسا ومن أغزرهم أنتاجا، لقد صدر له أكثر من 60 كتابا ترجم جلها إلى أكثر من 30 لغة وعرف نجاحا كبيرا في المكتبات إذ تفوقت كتبه حتى على الرواية. للمفكر حضور لافت في الإعلام إذ تتمّ استضافته باستمرار في التلفزات الفرنسيّة للحديث عن فلسفته أو آرائه في الشأن العام أو للتعريف بآخر إصداراته. أحدث كتابه الأخير “الانهيار، من يسوع إلى بن لادن، حياة الغرب وموته” كالعادة ضجة إعلامية كبيرة وخاصة حينما راح يردد في وسائل الإعلام أن الحضارة الغربية في انهيار متواصل وشارحا أن أوروبا قد ماتت وأن الغرب قرب موعد نهايته الكاملة. فأين يرى علامات ذلك السقوط المحتمل؟ وكيف لفيلسوف ملحد أن يرجع خلل الحضارة الغربية إلى افتقادها لأساس روحي يبعث فيها الحياة؟

اتصلنا بالفيلسوف وحاولنا أن نتعرف أكثر على أطروحته فكان لـ”العرب” هذا الحوار معه.
العرب: ما هو المعنى الذي تضفيه على عبارة “الحضارة الغربية التي تستعمل في كتابك الجديد “الانهيار، من يسوع إلى بن لادن، حياة الغرب وموته”؟
◄ أونفري: أعني بذلك الثقافة اليهودية-المسيحية ذات النشاط الحي والفعال على الأراضي التي تبنتها وتطابقت مع دعائمها، وأقصد أوروبا والتي بعد توسعها وانشطارها أدمجت وضمت قارات أخرى كالأميركيتين وقارة أستراليا. تتكون كل حضارة من تَبلوُرات فنية وروحية وثقافية وتاريخية، تنتج عنها في الأخير روحانية يحملها هي أيضا كتاب مقدس. وهذا يشبه ذلك التبلور الذي تحدث عنه ستندال في مناجم الملح بسالزبورغ حيث إذا تمّ رمي غصن شجرة أجرد في أحد مناجم الملح فبعد شهرين أو ثلاثة يخرج غصنا من بلور يتلألأ.

فليس هناك حضارة بلا قصيدة أصلية أولية تجعلها ممكنة، كالتوراة والعهد القديم والقرآن إذا ما تحدثنا عن آخر النصوص. وعندما تُتبنّى هذه الروحانية وتُحمل من طرف سياسة، تصبح دينا. ولا وجود لحضارة بلا دين، فالدين هو حجر أساس كل حضارة.
العرب: “في هذا الكتاب أقوم بعمل الطبيب.. أقدم تشخيصا للمرض”، تقول وتكتب في مناسبات ومواضع كثيرة، فما هي أهم الأعراض التي تنذر بانهيار الحضارة الغربية؟
◄ أونفري: هي أعراض لا تنذر عن انهيار قادم بقدر ما هي تشهد على انهيار وقع بالفعل. لقد حصل الأمر! أما عن دلائل الانهيار فإليك بعضها دون ترتيب طبعا وغير جامعة مانعة: تحويل مباني الكنائس إلى أغراض أخرى غير روحية، انعدام أيّ رغبة لدى الشبان في الغرب للالتحاق بمهنة الكهانة، نقض وضعف الإيمان والتملص والتحرر إزاء العقائد الدينية من قبل المؤمنين أنفسهم، التعامل مع الدين كما يحلو للمؤمن دليل على تفكك الأساس، تصدّعت جدران الكنائس وانهارت أقسام منها.

ويشهد على الانهيار أيضا: اضمحلال القيم وظهور حتى مفهوم ما بعد الحقيقة الذي يعني انتشار النسبية على نطاق واسع، العجز عن تكوين مجتمع حيث يسود الانشطار، بمعنى هيمنة الفرد الواحد المنفرد، الأناني، المتبجح، المُطالب.

ومن علامات هذا الانهيار يمكن أن نضيف موت الواجبات التي لم يعد يستسيغها أحد بينما تعطى الإمكانية كلها للحقوق التي يطالب بها الجميع لنفسه، لجماعته، لقبيلته، لرهطه. انتشار الأمية حتى بين الذين يفترض فيهم حمل وامتلاك المعرفة. الابتذال أصبح يعلق كقلادة ويحتفى به كجمالية عندما يقترفه لاعبو كرة القدم والممثلون والرياضيون بصفة عامة والمغنون ذوو الشهرة والنجاح ومقدمو البرامج في التلفزيون.
يستعرض المال القذر المتحكم في كل شيء كعلامة على قيمة الذات. رفض البلوغ والوصول إلى الرشد والأطفلة جعل الراشد يعيش نكوصا كالصغار، هيمنة دين الاستهلاكوية الذي يقيس قيمة الذات بما تملكه، الفساد المستشري لرجال السياسة على نطاق واسع وحصانتهم، الاستهتار الذي غدا يمارس في العلن، اختفاء الشجاعة، قبول العبودية الطوعية برحابة صدر وسرور.
العرب: نخرج من قراءة “الانهيار” بفكرة غير معهودة تقول بأن الحضارة الغربية على وشك الاندثار، كيف يمكن أن تندثر حضارة تكاد تصبح كونية؟
◄ أونفري: كأنك تسألني: كيف يموت رجل بلغ من العمر 100 سنة؟ بالضبط لأنه بلغ هذا السن، فأيّ إنسان في مثل هذا العمر يكون معرّضا للموت في أيّ لحظة لأنه وصل إلى أقصى ما تسمح به حيوية النوع الذي ينتمي إليه. هناك وثبة حيوية عالجها الفيلسوف برغسون جيدا، تسير وفق قانون كل ما هو حي ينبغي أن يموت يوما. لقد ماتت الإمبراطورية البريطانية التي كانت أكبر الإمبراطوريات التي عرفتها الإنسانية وكذلك إمبراطورية الإسكندر وجنكيز خان أو تيمورلنك! لا تفيد العظمة والاتساع هنا في شيء. مصير كل ما هو موجود الفناء.
العرب: في أطروحة الانهيار/الاندثار، تكتب أن “جميع الحضارات عرفت هذا القانون التاريخي، لماذا تفلت حضارتنا بعد 2000 سنة من الوجود؟ هل محكوم على التاريخ أن يتكرر حتى بعد مجيء الحداثة؟”.
◄ أونفري: التاريخ لا يتكرر فلا يمكن أبدا أن تعود حضارة بعد موتها بل تموت لتترك مكانها لحضارة أخرى في منطقة أخرى: آشور، سومر، بابل، مصر الفرعونية، اليونان، روما كلها استفادت وتغذت من بعضها البعض، ولكنها كلها عاشت وماتت. ما يتكرر ليس التاريخ بل كل ما هو حي ينصاع لنفس القوانين: الزهرة مثلها مثل الإمبراطورية، وكذلك الحشرة والحضارة: ميلاد، نمو، تطور، قوة، قمة، هبوط، انهيار، شيخوخة، موت. عندما ينتهي زمن الحياة يحضر الموت. لقد قال ذلك الطبيب بيشا ذو النزعة الحيوية في القرن التاسع عشر إن “الحياة هي مجموع القوى التي تقاوم الموت” وكان على حق نعيش ما دام لنا ما يكفي من القوة لنحارب كل ما يضع حياتنا في خطر. وفي يوم من الأيام سوف لا تكفي تلك القوة وهكذا يأتي الموت ويأخذ كل شيء معه.. وينطبق هذا الأمر على الإنسان وعلى الحضارة معا.
العرب: تقول بأن لا حضارة تنتج دينا وإنما الدين هو الذي يلد الحضارة. بغض النظر عن الإسلاميين، نجد أن أغلب المفكرين العرب لا يرون بأن الإسلام قادر على إعادة بناء حضارة بمقدورها أن تنافس الغرب، ناهيك عن أخذ مكانه..
◄ أونفري: توجد حضارة إسلامية بفنها وقوانينها وأدبها وفقهها وفلسفتها وهندستها وشعرها وفتوحاتها وجامعاتها والبلدان التي احتلتها.. ولا يجب مقارنتها بحضارة أخرى إذ لا يوجد مقياس لقياس القوى في مثل هذه الأمور. ولكن تعرف الحضارة الإسلامية استعادة لحيويتها بعد فترة راحة كما يحدث أحيانا لنباتات معينة تعود إلى الحياة بعد فترة من السّبات. ومن هنا لا يمكن أن نتكهن بمستقبل هذه الحضارة إذ مع مرور الوقت، وارتباطا مع التكنولوجيا والحداثة والرأسمالية، يمكن جدا أن تولد نسخة جديدة غير مسبوقة. فكل الحضارات الراقية المهذبة فرضت نفسها في بداياتها في زمن كانت تسود فيه البربرية، بما في ذلك الحضارة اليهودية-المسيحية.
العرب: “الانهيار، ليس كتاب تاريخ ولا بيانا بل هو رواية داخلية. هو انطباع وسواسي أصمّ لهذه السيمفونية الجنائزية”. هكذا كتب أحد ناقديك عن كتابك. ألا تعطيه الحق حينما تكتب في موضع ما من الكتاب “إن كل فلسفة تاريخ تقدم نفسها على أنها موضوعية ما هي في حقيقة الأمر سوى فلسفة صاحبها الذاتية؟
◄ أونفري: أتفق معك تماما.. فهو ليس كتاب تاريخ وليس بيانا ولم يكن في نيتي فعل ذلك أبدا! هو كتاب فيلسوف وفلسفة يعتمد على التاريخ للتفكير فيها وليس على الخطاب لبلورتها. وأن يكون “سيمفونية جنائزية” فهذا يناسبني أيضا. وهناك سيمفونيات جنائزية جميلة جدا وأفكر في “غسق الآلهة” لفاغنر التي تناسب عصرنا أحسن من الحياة الباريسية لأوفنباخ.. وعلى كل فكل عمل هو ذاتي وعملي لا يشذّ عن القاعدة وحتى عمل من ينتقدني هو ذاتي أيضا ولكن أنا على الأقل لا أتقدم ملثّما، عكس هؤلاء الذين يدعون الموضوعية.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى