روايات من غونكور

أمير تاج السر

كنت قرأت في العام الماضي، «موعظة لسقوط روما»، وهي رواية متوسطة الحجم للفرنسي جيروم فيراي، الذي يعمل في التدريس في دولة الإمارات العربية، وقبلها بعام قرأت من منشورات الساقي اللبنانية، رواية «حجر الصبر» للأفغاني عتيق رحيمي، وكانت صغيرة الحجم ومكثفة كثيرا، وهذا العام انغرست بجدية، في رواية «أغنية هادئة» للمغربية ليلى سليماني، والذي يجمع بين هذه الأعمال الثلاثة، هو حصولها جميعا على جائزة غونكور، أعرق الجوائز الفرنسية وأكثرها شهرة.
رواية جيروم تتحدث عن أشياء مختلفة، وبدأت بطريقة ساحرة، عن ذلك الرجل الذي يطالع صورة قديمة لأسرته، التقطت قبل أن يولد، ويتخيل كيف كانت ستكون لو حضر التقاطها. كمية من التداعيات الثرية، والأفكار التي، أصفها بأنها ساحرة وممتعة أيضا في القراءة. الرواية تنحرف فجأة وبطريقة مربكة إلى عالم آخر، يتشكل في الصحراء، حيث مشرب أو بار تملكه امرأة عجوز، وتديره فتاة اسمها حياة، وواضح أنها عربية، ويغشاه الصيادون ليثملوا في أي وقت، ثم تختفي حياة فجأة تاركة البار يتأرجح بين إدارة سيدته العجوز، وشاب جاء من مكان بعيد، وأيضا تبتعد الرواية عن هذا العالم، لتتحدث عن طفولة وذكريات لأحدهم. لقد كانت في رأيي ستكون عملا مهما لو ركز الروائي على عالم الصورة القديمة الحية في خيال من يشاهدها بعد زمن طويل، أو ركز على عالم صيادي الصحراء السكارى، ولم يتفرع إلى أحداث عادية، قد تعجب كثيرا من القراء، لكنها لا تستهويني حقيقة، ولا أجد فيها السحر الملائم لتذوقي، وهذه مسألة شخصية طبعا، وهنا سأجعلها تقنية أيضا بوصفي من الذين يكتبون، ولو رسم أحدنا، أي من الذين يكتبون في الوطن العربي، عوالم عدة في نص متوسط الحجم، أو صغير،، لتعرض لكثير من الانتقاد ولوصفت قصته بالتفكك، عموما لست في موقف انتقاد عمل ما، بقدر ما أتحدث عن تذوقي لعمل حصل على جائزة رفيعة.
رواية عتيق رحيمي «حجر الصبر» رواية من العالم الثالث غير المتكافئ اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، مع العالم الذي يمنح الجائزة، رواية مؤلمة وبطيئة في بث جرعات الألم، وتحكي عن ذلك العالم الأثير لكتاب أفغانستان، عالم طالبان والجهاديين، والمرأة المحتجزة في التقاليد، والمخدر، والجنس الذي يمارس في الخفاء وتحت الأقنعة. عن الرجل الجهادي الذي أصيب في رأسه كما أذكر، ويرقد في غيبوبة تامة، وعلى الرغم من ذلك يستعبد امرأة هي زوجته بطريقة أو بأخرى، يجعلها سجينة غيبوبته، تواصل الليل بالنهار في سبيل رعايته وتمريضه وتقليبه على الفراش، وتسأله أسئلة كثيرة، هي أسئلة المرأة التقليدية، تسأله عن حياته عن حياتها، عن حياتهما معا، تسقيه، وتملأ حلقه بالدواء، وتقرأ له أدعية تتمنى له فيها الشفاء، ولا تنام إلا بتخيل نومه وتصحو بتخيل استيقاظه وتترك البيت لتعود حالا.
كانت ثمة إشارات كثيرة، للجو القاتم للحياة في أفغانستان في أعقاب استيلاء طالبان على السلطة، وكما قلت، كان هذا وما يزال الجو المسيطر على الكتابات الروائية، لكل الروائيين من أصل أفغاني، وهاجروا ليقيموا في الغرب ويكتبوا بلغته وأشهرهم بالطبع، خالد حسيني الذي يعيش في أمريكا وكتب، «عداء الطائرة الورقية» إحدى أشهر الأعمال الروائية في التاريخ.
رواية ليلى سليماني، ذات روح غربية صرفة، وقد امتلك الجو الغربي أو الفرنسي، نكهتها كاملة: الحياة الصعبة لزوجين شابين لديهما طفلان صغيران، بحاجة لرعاية، الأم دارسة القانون التي لا تعمل، وتتفرغ لرعاية الطفلين، الزوج الذي يحلم بشركة إنتاج، ويحاول تحقيق الحلم. فوضى في البيت، في الشوارع في أفكار المرأة نفسها والبحث عن مربية تناسب وضع العائلة، ثم مأساة.
في الحقيقة كنت قرأت أعمالا عدة غير تلك الأعمال الثلاثة، حصلت على جائزة غونكور، وكعادة أعمال الجوائز، هناك دائما سعي من القراء، من أجل الحصول عليها وقراءتها، وأظنني أفعل ذلك بدافع الفضول، لأرى أي شيء جاذب في عمل ما، ولفت أنظار اللجان المحكمة، وبالطبع لا أتخذ أي قرار تحكيمي، قرارا نهائيا سيتسلط على تذوقي، ولا أحرم نفسي من قراءة أعمال لا تحصل على جوائز، وأعتبرها شاهقة وجميلة ومعبرة، وكم من مرة قلت إن أعمال سليم بركات مثلا، ينبغي أن تكون أعمال جوائز، لو أنصفت ولم يحدث ذلك حتى الآن.
أقول باستثناء رواية رحيمي، لم أحس بانسجام مع تلك الأعمال الغونكورية، وكنت أقرأها بشيء من الملل، على الرغم من صغر حجم معظمها وأنها يمكن أن تكمل في جلسة واحدة لو كانت جاذبة.. رواية فيراري، أرهقتني عوالمها المتفرقة، ما أن أمسك بجو ما، حتى يفر. رواية «أغنية هادئة» بدت لي غربية المذاق، وواقعية جدا، وتفتقر للجنون الكتابي الذي يمثله الخيال الجامح، لكني لا أقول بأنها ليست جيدة، هي جيدة ومكتملة، ومؤكد حصلت على متذوقين كثر، لكني لم أكن منهم.
نعود هنا لنتحدث عن مسألة التذوق.. التي هي الحكم الرئيسي في أي شيء، وأظنني طرقتها كثيرا، وهناك شيء آخر ما دمنا نتحدث عن أعمال مترجمة، فالمترجم يخضع الرواية لرؤيته الخاصة وعباراته الخاصة، وأيضا يترجم بقلمه وبصمته الخاصة، وهنا سنجد من يعجب بترجمة ما، ولا يعجب بترجمة أخرى، وهناك في هذا الخضم مترجمون أفذاذ، سحروا الجميع بترجماتهم التي اتفقت عليها كل آراء القراء، ومنهم بالطبع صالح علماني، الذي لو لم يكن مترجما لأدب أمريكا للاتينية، والأدب المكتوب باللغة الإسبانية عموما، لكان كاتبا عظيما من كتاب الخيال، وعبد القادر عبد اللي، الذي رحل مؤخرا، وكان عظيما في نقل أدب الأتراك إلينا، ومن إنجازه قرأنا أورهان باموق، الذي أعتبره شخصيا أهم كاتب تركي، على الرغم من أن القراء الآن يلهثون وراء إليف شافاق و»قواعد العشق الأربعون».

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى