الثقافة العربية في لحظتها الراهنة.. من بواكير النشأة حتى عمليات التجميل

محمد القذافي مسعود

للثقافة وجوه عدة لا تنحصر فقط، كما يبدو في المكتوب والمقروء، لكن في مفهومها الأشمل صيغة للحياة، أفكارا ومعتقدات وسلوكا إنسانيا، ربما بذلك ندرك أهمية ما تمر به الثقافة العربية في السنوات الأخيرة من تعقيدات وتشوهات تمكنت منها. ويدور التساؤل حول ماهية الأزمة، هل تكفي عمليات التجميل كمحاولة للإنقاذ؟ أم أن الأمر يحتاج إلى الكثير من السعي والنضال في سبيل الاحتفاظ بالوجه الإنساني للثقافة العربية، وقبلها بالطبع الإنسان العربي؟ هنا آراء بعض من المثقفين العرب عن الحال أو المأزق الذي نعانيه.

التواجد والحدود

بداية تقول الروائية والباحثة المغربية سعيدة تاقي، من الضروري قبل التأسيس لفكرة مدى حاجة الثقافة العربية لعمليات التجميل، أن نتساءل ماذا نقصد بالثقافة العربية؟ وللتخصيص ماذا نقصد بالثقافة العربية بدون مواد حافظة، أو محسنات الطعم المضافة، أو إخراج فني فخم أو بهرجة دعائية؟ هل مازال لدينا ما يمكن تخصيصه بتوصيف «عربي» بالفعل؟ ما نواكبه حاليا من ثـقافة، هي ثقـافات متداخلة وملتبـسة وعابـرة للحـدود والجـمارك واللغات، يصعب حصرها أو تحديدها أو الإقـرار في شأنها بحـكـم واحد تعـميـمي. وفي ظل التباس الصور والنسخ والظلال لا يمكن أخذ البعض بجريرة الكل، والعكس صحيح. لكن لنترك قليلا إشكال الخصوصية الذي لا تكاد تسلم من تبعاته في عصرنا الراهن أي هوية، وأي ثقافة، ولننظر في الثقـافة ذاتها التي ننتمي إليها ونحن نصنعها، وتنتمي إلينا وهي تصنعنا. إن الثقافة هي ذات وهوية قد نركن إليها ونؤمن بها وننتسب إلى أركانها، وقد ننتقدها أو ننكرها أو نجافيها أو نخاصمها، وندعي لذواتنا ثقافة أخرى غيرها. وهو الأمر الذي يلوح جليا كلما قاربنا خواص الثقافة داخل المجتمع الواحد من جيل إلى آخر، فكلما اتسعت المسافة «الجيلية» بين الأفراد تغيرت القيم والمنظورات والأولويات، ليس من منطلق أن ما يؤمن به جيل ما، قد لا يؤمن به جيل آخر، وإنما من منطلق أن السرعة التي يشيِّد بها العالَمُ حاليا جديدَه ومتغيِّرَه وابتكاراتِه لا تعاصرها كل الأجـيال المختلفة بالوتيرة نفسها، ما يخـلُـق على مستـويات التلـقي والتجـاوب والاندماج والانشـغـال والإيـمـان والسـلـوك، مَـدارجَ ومسالك قد تبلغ أحيانا حد التنافر والتعارض والتصارع.

الإنتاج الثقافي وخطاب المصالح

وتضيف تاقي، أن الثقافة ليست حكراً على المثقفين، وليست شأنا للمُحلِّلين أو المُنظرين فحسب؛ تعالَج بين دفات الكتب ورفوف المكتبات، وعلى منابر الندوات وفي فصول الجامعة، وبين أوراق المكاتب والمديريات والدواوين. إنها شأن يعاش يومياً، وحياة تُفرز قيمها الاجتماعية والنفسية والفكرية والجمالية والدينية والسياسية والاقتصادية بشكل متواتر ومتلاحق، يصعب أحيانا الإلمام بطَـفْـراته وتستحيل الإحاطة بكل حيثياته واشتراطاته. لأجل ذلك يحـيا المـثـقَّـفُ شأنه شـأن الإنـسان الذي لا تشغله هموم الثقافة، الأوضاعَ نفسها، وتصلهما معا المعطيات ذاتها، ربما في اللحظة ذاتها، بحكم التـحرير الإعـلامي والتحرُّر المعـلوماتي والنشر الإلكتروني، وتعدد الـوسـائـط والأقـمار الصناعية والنواقـل المعرفية والإعلانية والإعلامية. لكن بينما يعـمد الأول إلى موازاة الحـياة الثقافية بالتحليل والتـأمل والتفكيـك والتنظير والاستشراف، يكتفي الثاني باستهلاك السائد، فليست وزارة الثقافة هي التي تسيِّج بدواوينها «مَأْسَسَة» الثقافة الموسومة بـخصوصية ما. وليست المؤسسة الرسمية بمفردها من تسعى إلى تجميل «الوجه البائـس» لـما يحظى به الـشأن الثـقـافـي من اقـصاء وتهميش وتضييق على الجوهري وتضخيم وتصدير وتمويل للتافه، بل كل المتدخلين في إنتاج الخطاب الثقافي، أو ترويجه أو تداوله أو تسويقه أو الدفاع عن قيمه أو الحرص على سيادتها أو استمرارها وخلودها، بما في ذلك قـوى الإعـلام والـصناعة والـسـياسـة والمجتمع، وغيرها من سلط رمزية ــ بما فيها الممارسات الدينية ــ تصنع يوميا شكل الحياة، أو تدعمه أو تحافظ عليه أو تدفعه إلى التغيَّر أو التعديل أو التدجين أو التنميط.

البداية من التعليم

وترى إخصائية الاقتصاد والتنمية الليبية هدى الغول، أن الغرض من عملية التجميل؛ هو إيجاد حل لخلل حدث، إما بسبب عيب خلقي أو حادث خارج عن الإرادة أدى إلى تشوه في الجسم أو أحد مناطقه، ومن هنا يمكننا القول بأن الثقافة العربية هي جسم أو بنية خلقت بعيب واضح هو محور الوجع الحقيقي للمثقف العربي ــ المنتج والمتلقي ــ والمتمثل في التعليم وطرقه وأساليبه الضعيفة المستوى، والضيقة في الحدود في نطاق عمليات انتقالية، وليست وسيلة للتنمية وتوسيع الإدراك والمعرفة، وهذا جعل منا بلداناً متخلفة، تسكنها مجتمعات لديها مشاكل نفسية عميقة، ومشاكل اجتماعية معقدة صعبة الحل، فالتعليم له دور سلبي ومنحرف المسار عن كونه أداة لصنع الثقافة الشاملة، وبالتالي فإن عملية التجميل لهذه الأداة تتركز في خلق هيكلة جديدة، واستراتيجية تنموية طويلة المدى، لاستخدام التعليم وسيلة إيجابية لخلق مجتمع متكيف ومتناغم خال من العاهات الاجتماعية والعقد النفسية، الذي بدوره ــ أقصد التعليم الإيجابي ــ يخلق الكاتب المبدع والقارئ المميز وسينتج لنا محصلة ثقافية بالنظرة الشمولية للثقافة.

آفة السياسة ومأزق المثقف

وتستطرد الغول، أما بعد ذلك العيب الخلقي فقد تعرضت الثقافة العربية لتشوهات، إثر ديمومة اصطدامها بالسياسة، والمسؤولة بدورها وبشكل كبير عن تحجيم وتهميش العمل المبدع والخلاق، خصوصاً تلك التي تنقبت بالدين، واستخدمته كرقابة على المثقف المبدع وحرمانه من التألق والتواصل الجذري مع المتلقي، والسؤال هنا كيف يمكن أن تتم عملية تجميل الثقافة العربية بعد تلك التشوهات التي أعاقتها؟ يتمثل الجواب في دور المثقف العربي، كونه الناقد الأول لمنتوجه الأدبي أو الفني، ولابد أن يكون له دور محوري في ترميم الصدوع التي حدثت، أو قد تحدث في الثقافة العربية وبنيتها التحتية؛ بتقريبه لمنتوجه الثقافي من الناس، وبتعزيزه الجانب الإنساني في نفسه قبل أن يركز على الإبداع، وبذلك يساهم في خلق مجتمع ثقافي راق غير متعصب.

ثقافة التوحد

ويضيف الشاعر والكاتب الليبي خيري جبودة، أعتقد أن الثقافة العربية بحاجة إلى استخراج سجلها العائلي وتاريخ ولادتها، لأنها لا تحتاج إلى عمليات تجميل بقدر احتياجها لعلاج نفسي يعيدها كي تعرف جيلها الحقيقي، وما تحتاجه كي تفهم هذا العصر، لأنها ثقافة مصابة بالتوحد، هذا من جهة الفكر، ومن الجانب الآخر للثقافة العربية في مجال اللغة والنقد، أعتقد أن الثقافة العربية لا تزال محاصرة في مجال الدراسات اللغوية والنقدية، التي قام بها مؤسسوها أمثال الجرجاني، والأزمة العميقة في ثقافتنا العربية، أننا لم نعرف من منجزها الكبير، إلا أجزاء صغيرة كان من بينها ما حققه المستشرقون.

ثقافة أم شهرة متثاقفين

وتتساءل الكاتبة الأردنية مُسيَّد المومني، إن كان الداخل مشوها، فما فائدة عمليات تجميل تلامس المظهر، ما دامت البشاعة ستمكث في ما نظن أنه الجوهر، الذي هو محتوى النتاج الثقافي بكافة أجناسها الأدبية؟ وللأسف نقول بأن كثيرا ممن يدعون الثقافة ربما يهتمون ببهرجة أغلفة الكتب، ويتخيرون العناوين البراقة لجذب انتباه القراء في ما يظنون، أكثر من اهتمامهم بمكنونات المنشورات، وهذا يقودنا إلى أن الثقافة العربية تحتاج إلى اهتمام بالعمق، وأولها إحياء اللغة العربية كأجدى خطوة لتمكين المنتج الثقافي، حيث اللغة محمل الفكر، ثم التركيز على مصادر استسقاء الثقافة المرجوة والاهتمام بماهية المعلومات الموثوقة، ومن بعد البحث عن منابع وأصول الثقافة، أو البناء على ما هو متوفر وتطويعه ليواكب التغييرات الفكرية المتسارعة. وللأسف مرة أخرى نقول بأن الثقافة العربية تقوم على الأطر الشخصية الضيقة، سعيا لتحقيق بعض الشهرة الإعلامية التي لا تدوم طالما أن المثقفين يأنفون من النقد الأدبي الحصيف، ويبتعدون عن مزاولة حرفة الكتابة بضمير الأمة، ويكتفون فقط بعدد الإصدارات واقتناص الثناءات، ممن يحظون بصحبتهم. أخيرا يمكن القول بأن الثقافة تحتاج إلى توسيع مدارك المثقفين، وزيادة اطلاعهم، والتأكيد على كل ما سبق بغرس بذرة الهم العام، كرسالة أخلاقية وإنسانية في الضمائر قبل العقول، فلا يمكننا أن ننتظر صلاح حال الثقافة شكلا، طالما أن الجسد من داخله وبكامله موبوء.

الأسرة وانحدار المعايير

وتقول الشاعرة اللبنانية تغريد فياض، إن الثقافة العربية تمر، كما الأمة التي تنتمي إليها بمنعطفات زلقة وخطرة جدا. نسبة إلى التغييرات الاجتماعية الكبيرة، من حيث التقدم التكنولوجي في العالم، وبالتبعية التغيرات السياسية التي نتجت عنها، فحين أصبح العالم قرية صغيرة بسبب تطور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، حدث التغيير الكبير في نفوس الشباب والأطفال. لا أقول إن الثقافة العربية تحتاج إلى تجميل، بل إلى عمليات زرع أعضاء، واستبدال الأعضاء الفاسدة التي وصلت إلى حال متردية في أغلب البلاد العربية، نتيجة استسهال بعض الأهالي لترك أولادهم فريسة لأدوات التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي. هنا فقط حدثت الفجوة البغيضة بين أغلب الأهل وأولادهم، حين رأى الطفل أنه ملم بالتكنولوجيا أكثر من أهله، فسقط جزء كبير من حاجز الرهبة والتقدير المطلوبين بينهما، وهنا يبدو مدى انحدار المعايير الثقافية. عندما كنا صغارا كانت القراءة جزءا كبيرا من نهمنا لمعرفة العالم ومحاولة استيعابه، ومن ثم التعبير عن فهمنا هذا وأحلامنا بالكتابة، فكانت الثقافة من الستينيات حتى الثمانينيات في أبهى عصورها في العالم العربي، بالتوازي مع منظومة القيم والأخلاق، التي كان أغلب الأهل يحرصون على زرعها في وعي أولادهم. إذن الأهل في الأسرة العربية، هم من بحاجة إلى عمليات تجميل حتى يحافظوا على الأجيال القادمة، بعد أن فقدنا أغلب شباب هذا الجيل أمام معركة اللاثقافة والقبح، أقول أغلب طبعا، ولا أعمم لأن هناك نماذج رائعة من المبدعين والمثقفين العرب الشباب رغم قلتهم.

جذور الأزمة وأصولها

وفي الأخير يرى الروائي والمترجم الفلسطيني عاصف الخالدي، أن الثقافة كجسد للحضارة، في أبسط معانيها تعني التعامل مع مفردات الحياة كلها. مفرداتنا الحياتية اليوم، يغلب عليها الديني والسياسي، وبما أن الثقافة مسألة تراكمية، فهذا يعني أن أزمتنا التي نعانيها اليوم، لها جذور ماضوية عميقة. ولو اختزلنا ماضينا كله وبقينا في حدود قرن من الزمان، لرأينا ببساطة كيف تم تمزيق الثقافي لصالح الديني والأيديولوجي والسلطوي، بدلاً من أن تقوم الثقافة باحتواء كل الأفكار والمفاهيم والمعتقدات. إن منطلقاتنا للتعامل مع الثقافة في العالم العربي لا يمكن أن تأتي من دوافع إنسانية بحتة، إنما تخضع لطائفية ما، عرقية ودينية أو سياسية. ظهر هذا جلياً في أحداث (ثوراتنا الأخيرة) حيث تم اختزال مفهوم التحرر بالقتل المتبادل، بالهدم، بالتهجير، ومحو هوية المكان والزمان. أزمة الثقافة تتجلى هنا في سلب هوية الإنسان العربي، وتحويله إما لقاتل أو قتيل. الثقافة العربية برأيي ليست في حاجة لعملية تجميل، كما إنها ليست بحاجة لهدم كلي بالطبع، فاللغة والدين والأدب التي تشكل عتاداً لأي حضارة، موجودة جميعاً، كل ما نحتاجه هو تمكين الإنسان العربي من إنسانيته، حتى نعطي للثقافة فرصة لكي تحتوي كل هذا العتاد وتتطور. الفكرة أنه لا يوجد للثقافة العميقة دور في حياتنا اليومية، لأن الثقافة مسألة مرنة ويومية وتتغير وتتطور في كل لحظة، وتكمن قوتها في عدم مركزيتها وخضوعها لأي سلطة، سواء سياسية أو مقدسة. المساحة لدينا متروكة للخراب، ولتقويض الذاكرة، بدءاً من قصف البيوت والأشجار والأطفال، وانتهاء بربط النصوص الأدبية كلها بنص واحد مقدس يخضع للتطويف. لا يمكن للثقافة أن تتطور بتقويض الذاكرة، ولا يمكن لها أن تتطور، ونحن نتجه إلى المستقبل مثل أشباح مقبلة من الماضي. لا مكان للأشباح في المستقبل. أظن أن غياب مشروع دولة عربية مدنية حقيقية منذ استقلال معظم الدول العربية، له دور أساسي وعميق في استمرار هذه الأزمة. وإبقاء الغلبة للتفريق الذي يخدم مصالح سلطوياتها. في الواقع، أن نكون فاعلين ومنتجين ثقافياً، لا يتوقف عند حدود إنتاج الأدب والفكر وقراءة الكتب، ما نعاني منه منذ بضعة قرون يتراكم الآن، وهو إبقاء هذه الأفكار والفلسفات ــ هذا إن أنتجنا أي فلسفة ــ وإبقاء الكثير من مشاريعنا الأدبية والإنسانية حبيسة الكتب. هذه المنتجات الثقافية يجب أن تكون أساساً في حياة إنساننا العربي. وحده الأدب برفقة الفكر يمكن أن يصنع لنا قوانينا ودساتيرنا المقبلة، لا يمكن للثقافة العربية أن تخرج من أزمتها سوى بخروجها للشارع، وأن تكون بديلاً عن كل ما هو مطروح، من سلاح واستغلال وسلطوية دينية وسياسية تعتاش منها محطات الأخبار، أفكر أحياناً بأن الإنسان العربي لو تأخر عن حضور نشرة الأخبار ورؤية كل مصائبنا فيها، فإنه تأخر لأنه خرج، إما قتل، أو قُتل! كل ما أتمناه، هو أن يكون قد توقف ليقرأ كتاباً أو يشاهد لوحة، المسألة بكل بساطة، هو أن أزمة الثقافة العربية تكمن في إبقاء الثقافة في قبرها الذي يحرسه رجال السلطة والدين، أنا متأكد أنها تستطيع العودة إلى الحياة، وأن تنمو بسرعة وعمق. بمجرد إخراجها من نفقها المظلم هذا.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى