هل يصنع الزيف جزءاً من حقيقة الفن في عصرنا؟

فاروق يوسف

على رغم ما يخالطها من تنظير فكري مفرط في انغلاقه اللغوي إلى درجة الغموض، فإن فنون ما بعد الحداثة تنطوي على معادلات شعبوية ساذجة وسطحية بل وتكون أحياناً فارغة من المعنى. ذلك لأن الكثير مما تحاول تلك الفنون أن تقوله أو تصفه أو تعالجه يكاد يكون معروفاً ومتداولاً بين متابعي الأخبار اليومية. وهو ما يكشف عن توسع دائرة استرضاء الجمهور من جهة تبسيط العلاقات الغامضة والمعقدة التي تنطوي عليها الممارسة الفنية، وصولاً إلى دحر ما تختزنه من قوة خيال، هي انعكاس مرآتي لعزلة الفن التي تنأى به بعيداً عن السوقية والذائقة الجمالية المنحدرة.
في الجانب الرمزي من تلك الفنون هناك تركيز على ما هو شائع من مفردات وإشارات وعلامات مستعارة من الذاكرة الجمعية التي هي الخزان الذي يلتقط منه الفن الشعبي إلهاماته. لذلك لا يفاجأ المرء بزوال الفروق بين ما يراه في عدد من معارض الفن المعاصر وبين ما يراه في أسواق العاديات ومزادات الانتيك. بل أن عدداً من الفنانين كان قد جاهر باستعارة منحوتاته التي هي ليست سوى دمى مكبرة من تلك الأسواق، مثلما حدث لجيف كونز الذي لا يفعل شيئاً سوى تكبير تلك الدمى الشعبية وإعادة صناعتها بمواد جديدة وفق تقنيات حديثة متطورة.
ألا يعني ذلك أن تلك النزعة الشعبوية قد انطوت على الكثير من الزيف الذي أريد له أن يحل محل الصدق الفني الذي كان يرهق الجمهور ويلاحقه بشعور مزعج بالذنب بسبب عدم قدرته على الفهم؟ ما يُريح في الفنون المعاصرة أنها تقول الشيء نفسه الذي تتداوله وسائط الاتصال المعاصرة، وإن بدا ثمة احتجاج أو رغبة في انتهاك المسلمات من الأفكار الاجتماعية. ما يردده دعاة الفن المعاصر من أن الفكر قد حل محل الجمال هو في حقيقته نوع من الإخفاء لنزعة شعبوية، تسعى إلى التباهي بانتصارها على عصور، ارتقى فيها الفن إلى مستوى الطبيعة، ليجاورها خالقاً شروطه ومقومات قدرته على ابتكار جمال، يصدر عن حساسية إنسانية مكتفية بذاتها.
الفنون المعاصرة في مجملها تسعى إلى إقناعنا بجمالية ما نحن فيه، لكن بطريقة ساذجة. فهي إذ تجمل القبح تحت ستار عدم اهتمامها بالجمال لا تطرح بديلاً، يكون من شأن حضوره أن ينصفنا كائنات أبدت استعداداً لكي تضع جزءاً من وقتها في خدمة حوار استثنائي. لا يزال الفن يمثل خلاصاً لعدد لا بأس به من البشر. غير أن معظم ما يقدمه فنانو ما بعد الحداثة (وهي التسمية الرسمية المعتمدة من المتاحف والصالات الفنية) انما يشي بفقره، إن على مستوى الفكر أو على مستوى العاطفة. وكما يبدو، فإن غنى الروح لم يعد غاية مطلوبة. هناك دائماً حديث يقع خارج الفن. بموجب ذلك الحديث صار الفنانون طرفاً في حوار تجريدي يبدأ بالسياسة وينتهي بالجنس من غير أن ينتج من ذلك الحوار أي شيء يمكن أن يُرى أو يُسمع أو يُشم أو يُتذوق أو يُلمس. نحن نعيش في عالم يقع خارج الحواس التي تم تحييدها.
المشكلة تكمن في أن أحداً لا يجرؤ على القول إننا نعيش عصراً فنياً، صار الكذب مادته الوحيدة. فالمؤسسات التي ترعى تلك الكذبة هي أكبر من أن تكون موقع اتهام.
في قاعة سربنتين الممولة من الدولة والتي تعتبر واحدة من أكبر القاعات بلندن وهو ما يجعلها معتمدة من المتاحف العالمية باعتبارها مرجعاً فنياً رأيت معرضاً لإحدى الفنانات لم يكن يحتوي سوى على خط أبيض متصل يتوسط جدران القاعة البيضاء بحيث تصعب رؤيته. غير أن تلك الخيبة كان مقدراً لها أن تكتمل حين رأيت في الاستقبال الكتاب الذي قامت القاعة بطباعته بعد أن كلفت عدداً من نقاد الفن بالكتابة عن عالم الفنانة في معرضها الحالي. كان حجم ذلك الكتاب (يتألف من أكثر من 500 صفحة من القطع المتوسط) قد صدمني أكثر مما فعل المعرض الذي لم أر منه شيئاً. لا يحتاج المرء إلى تقليب الكتاب ليتعرف الى قوة الزيف التي صارت مصدراً لحقيقة الفن المعاصر.
تذكرت يومها أشجار الصيني أي وي وي التي عرضت في باحة الأكاديمية الملكية وسط لندن بطريقة توحي كما لو أنها من وحي خيال عظيم في ما هي في حقيقتها إعادة تركيب لأشجار يابسة اقتلعت من الغابات. كان المشهد جنائزياً وعبثياً في الوقت نفسه.
في الحديقة القريبة من بيتي هناك كرسي ثابت، صنعه أحد عمال البلدية من جذع شجرة من طريق الحفر اليدوي. كنت أمرّ قريباً منه من غير أن ألقي عليه نظرة. حين عدت من قاعة سربنتين وفيما كنت أفكر بأشجار أي وي وي رأيته. قلت لنفسي حينها «لو وجد ذلك الكرسي طريقه إلى باحة الأكاديمية الملكية لحظي هو الآخر بالتبجيل ولألفت عنه الكتب ولصار صانعه واحداً من مشاهير عصرنا. ولكن كُتب عليه باعتباره جزءاً من الحديقة العامة».

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى