تشكيلية ليبية تداوي بالفن جراح الذات والوطن

حسونة المصباحي

في أحد فنادق مدينة الحمامات التونسية (60 كلم شمال شرق تونس العاصمة) كانت جلبة المدعوين إلى الحفل الافتتاحي للأيام المتوسطية للفنون البصرية التي انتظمت بين 14 و20 مايو الماضي عالية، إلاّ أن الفنانة الليبية سعاد الشويهدي كانت مشدودة إلى ألوان الغروب على جبهة البحر وهي تتغير بين الحين والحين لتصبح داكنة أكثر كلما تقدم الليل، وكانت تبدو حالمة سعيدة مثل طفلة تكتشف عالما بهيجا أنساها شقاء عذّبها فترة طويلة، لذا تركتها مستسلمة لأحلامها، ولم أقترب منها لأتحدث إليها إلاّ عندما أصبح البحر أسود أمامها.

قالت لي باسمة “الحقيقة أنا أكون سعيدة جدا في كلّ مرة آتي فيها إلى تونس، صحيح أن لكم مشاكل، ومُنغصات، ومخاطر.. لكنها أخف بكثير من تلك التي عندنا، فالانهيار الذي تعرفه ليبيا اليوم أفرز أمراضا لا يتصورها الخيال، وهي أمراض تزداد استفحالا يوما بعد آخر، والحكام الجدد يزيدون الأوضاع سوءا، وتعقيدا، وشخصيا لا أرى في الأفق ما يمكن أن يبشر بانفراج”.

وتجيب الرسامة الليبية عما يمكن أن يفعله الرسم فيها، فتقول “أنا في الحقيقة أعيش اختناقا دائما، ولا شيء من حولي يمكن أن يخفف عني ما أعانيه، وما يعانيه الناس في بلادي، مع ذلك بين وقت وآخر أرى بصيصا من الأمل، وأقول ربما تنفرج الأزمة ذات يوم، ويحدث لي هذا عندما أنصرف إلى رسم لوحات، أو عندما أسافر إلى خارج البلاد مثلما هو حالي راهنا، وفي كل مرة أجيء فيها إلى تونس، أستعيد حيويتي، وأشعر أن الفن يمكن أن يداوي جراحي، وجراح وطني ولو رمزيّا”.

وتتحدث سعاد الشويهدي لـ”العرب” عن بدايتها قائلة بأنها تنتمي إلى عائلة ميسورة ومحبة للعلم والثقافة، وكان إخوتها يبغضون التزمت والانغلاق، لذا كانوا يتعاملون معها من دون أي تضييق على حريتها الشخصية، وعندما شعر أحدهم أنها تحب الصور والرسوم المتحركة، اشترى لها أوراقا وأقلاما ملونة، فشرعت ترسم بعض ما كانت تراه حولها من أشجار وحيوانات وغير ذلك.
سعاد الشويهدي: أعشق الفوتوغرافيا، وأتدخل في الصورة لتكون عاكسة لمشاعري
وكانت في التاسعة من عمرها لما سافرت مع عائلتها إلى بلغراد لتقضي هناك واحدة من أجمل فترات حياتها، فقد اكتشفت ألوانا بهرتها، وأناسا يختلفون عن الناس في بلادها، وبسرعة تعلمت اللغة الصربية وهي تلعب مع الأطفال، وقد ازداد حبها لبلغراد في الزيارة الثانية فودت لو بقيت فيها، لكن العائلة عادت إلى طرابلس.

وتتذكر الشويهدي “مرة أهداني أخي رواية “جين اير” لشارلوت برونتي فقرأتها في ليلة واحدة، ومن يومها انجذبت إلى الأدب فأقبلت على قراءة الروايات الشهيرة، خصوصا روايات وقصص الكتّاب الروس العظام من أمثال دستويفسكي وتولستوي وغوغول وتشيكوف وغيرهم”.

ومع ذلك لم يلهها شغفها بالأدب عن مواصلة ممارسة الرسم كلما أتيحت لها الفرصة، وخلال الزيارات الكثيرة التي أدّتها إلى إيطاليا بصحبة عائلتها كانت تحب التردّد على المتاحف الكبيرة في روما، وفي فلورنسا وفي ميلانو، وهكذا تعرفت على فناني عصر النهضة وعلى فنانين من القرن العشرين.

وفي الثمانينات من القرن الماضي انتسبت إلى كلية الفنون الجميلة بطرابلس، وعند تخرجها لم ترغب في التدريس، بل عملت في شركة للبترول، وقد دعيت إلى تونس وإلى الجزائر للمشاركة في معارض فنية، إلاّ أنها لم تكن ترغب في المعارض الرسمية التي تنتظم في بلادها، وكانت تجد دائما تعلّة ما للتملّص من ذلك. ومنذ فترة، هي تعمل على إعداد معرض كبير للوحاتها التي هي مزيج من الصور الفوتوغرافية والتجريد.

وتقول “أعشق التصوير الفوتوغرافي، لكني أحب أن أتدخل في الصورة لتكون عاكسة لما أشعر به، وقد تكون هذه الصورة الفوتوغرافية لشخص، أو لشيء ما جامدا كان أم حيّا، إلاّ أنني أجعل اللوحة التي أرسمها من وحيها محمّلة بمشاعري وأحاسيسي تجاهها”.

وتفكر سعاد الشويهدي بجدية في أن تقيم معرضها الذي تستعدّ له منذ مدة في تونس، تقول “أفكر في أن ينتظم المعرض في مدينة من المدن التونسية، قد تكون صفاقس أو المهدية أو تونس العاصمة، فقد أصبحت معروفة في تونس، ولي صديقات وأصدقاء يبدون استعدادا دائما لدعوتي، ومساعدتي في هذه الفترة العصيبة التي تمر بها بلادي، والتي يواجه فيها أهل الفن والثقافة مصاعب لم يسبق لها مثيل!”.

 

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى