صناعة ‘الكاتب المشهور’ مرض ثقافي وخطر على الأدب

خلود الفلاح

ضيوف استطلاع “العرب” حول ظاهرة التجرؤ على الكتابة ألقوا المسؤولية على النقاد والنشر الإلكتروني والكم الهائل من دور النشر، وبكل بساطة اعتبروا هذا “التجرؤ” لن يصمد طويلاً. وفي المقابل يمكن أن نضيف سببا آخر لهذه المسؤولية ألا وهو “غياب لجان القراءة في دور النشر” و”المجاملة في النشر على صفحات المطبوعات”، وفي أحاديث خارج هذا الاستطلاع هناك من أشار إلى ملاحظة أن جمهور قراء بعض الكتب التي أصبحت اليوم الأكثر مبيعا في وطننا العربي وتتجاوز طبعاتها الرقم 10، هم أصحاب الفئة العمرية التي تجاوزت العشرين بقليل وبالتالي هذه الكتابات هي النموذج الأمثل للقراءة. وبعد زمن سيكتشفون ضحالتها، ومع ذلك لا بد من مناقشة “لماذا هذا التجرؤ على الكتابة؟”.
الزمن كفيل بالفرز

الروائي المصري عمرو العادلي يرجع المسألة إلى سهولة أن يصبح لدى أي شخص كتاب مطبوع بسبب انتشار دور النشر، وغياب دور الناقد الذي يضع يده على النصوص الجيدة. أيضا نشر الخواطر على صفحات الفيسبوك والمدونات التي تتحول فيما بعد إلى كتب مطبوعة. كذلك غياب الكاتب الذي يربط بين القيمة الأدبية والجماهيرية. هذه أبرز أسباب التجرؤ على الكتابة والنشر.

ويؤكد الروائي الجزائري بومدين بلكبير أن هناك تهافتا كبيرا على النشر، إذ شهدت الساحة الثقافية العربية في السنوات القليلة الماضية سيلا من الكتب والإصدارات، وبالذات في الرواية والشعر، الغث فيها أكثر من السمين. لكن في المقابل تعالت موجة كبيرة من الأصوات الرافضة لاستشراء هذه الظاهرة؛ فقد نسمع صوت النقد من حين لآخر، في مختلف المنابر الثقافية، منذرا بخطورة استسهال الكتابة من قبل كل من هب ودب، وكذلك منوها بجسامة التطاول على الأدب والإبداع من قبل أناس هم بعيدون عن هذا المجال بمئات الآلاف من السنوات الضوئية.

ويتابع بلكبير قائلا إن الكثير من تلك الأصوات التي أبدت انزعاجها من ظاهرة الإسهال في كتابة الرواية بالذات، صنفتها ضمن الأمراض المزمنة/المستعصية التي أصابت الأدب العربي في الصميم، كما أرجعت مأتى هذه العلة إلى تناسل الجوائز ذات العلاقة بالرواية على المستوى العربي بصفة هائلة، وكذلك إلى دور وسائط التواصل الافتراضية التي حطمت كل الجدران وانتهكت كل الأصول والمعايير المتعارف عليها. في حين علينا أن نتفق في البداية على أن هذه الظاهرة صحية جدا، لأن لها مبرراتها ومسوغاتها التي دفعتها إلى البروز والطفو على السطح بهذا الشكل الواسع والفج. المشكلة في نظري أعمق من التنديد بالتهافت على النشر.

يشير الناقد العراقي جاسم خلف إلياس إلى أن الكتابة كما هو متعارف عليه مهنة المتاعب. وعندما نصفها بهذا الشكل فإننا نضع الكاتب أمام مسؤولية كبيرة لا تجاه المجتمع فحسب، وإنما تجاه ذاته أيضا، فهل استطاع الكُتاب اليوم بمختلف مساراتهم الكتابية أن يضعوا أنفسهم أمام ذواتهم ليروا ما لهم وما عليهم؟ ربما قلة من هؤلاء الكُتاب فعل ذلك. وفيما يخص علاقة النقد بما ينجز، نقول: لا يمكن للعملية النقدية أن تساير هذا الكم الهائل من المنجزات الكتابية وفي جميع المستويات، على الرغم من الجهد المبذول من قبل النقاد في متابعة كل ما يمكنهم متابعته، وهذا ليس حديثا. ففي العصور القديمة أيضا كان هناك الآلاف من الشعراء ولكن عدد النقاد كان متواضعا لو قارناه مع الشعراء. إذن العملية ليست سهلة ولا سيما بعد أن أصبح النقد في مساره الحداثي وما بعد الحداثي نصا آخر حسب أصحاب نظرية التلقي واستراتيجيات القراءة.

ويتابع ضيفنا “لا تكمن المشكلة في الكاتب الذي يكتب سطرين أو أربع كلمات بقدر ما تكمن في القارئ الذي يبحث عن متنفس لعزلته وانهياراته أو يبحث عن علاقات إنسانية قد أعدها فاشلة من الأساس، فعلى سبيل المثال هناك شعراء لهم باع طويل في الشعر عندما تنشر لأي منهم قصيدة على صفحات الفيسبوك نجد عدد المعلقين لا يتجاوز أصابع اليد، وعندما تكتب امرأة ما أربع كلمات تتضمن العشق أو الحرمان أو ما يدور في هذا الفلك تتجاوز الإعجابات المئات، والمعلقون العشرات، ولا ترى نفسك إلا وأنت في بحر متلاطم من ‘روعة، جميل، حلو، الله …وهكذا‘.

وحين تسألهم أين مواطن الجمال في هذه الكلمات لا يعرفون فيلتزمون الصمت لحين نشر كلمات أخرى من قبل امرأة أخرى ليعلو الصراخ مرة ثانية وهكذا، وهذا كله ناتج عن سهولة النشر في الفيسبوك أولا وقلة الوعي ثانيا. ولا أظن أن هناك حلا لهذه المشاكل التي ستزداد يوميا”.
مشكلة بلا حل

الروائي بومدين بلكبير يلفت إلى احتلال واجهات المكتبات في البلدان العربية من قبل مجموعة من الروايات الأكثر مبيعا، والتي تعددت طبعاتها؛ كرواية “في قلبي أنثى عبرية”، و”حبيبي داعشي”، و”أحببتك أكثر مما ينبغي”، وغيرها من الروايات الأخرى التي تنم عن توجه جديد لنسبة مهمة جدا من القراء (لا يمكن الاستهانة بها) نحو الأعمال التي تتميز بالفقر الإبداعي والمعرفي واللغوي، وضعف الخيال، وانعدام الموهبة، وعدم التحكم في الأدوات الفنية للكتابة. فمن يفتح أي عمل من تلك الأعمال، يلحظ كم الأخطاء اللغوية والنحوية والمطبعية المرتفع، والزلات الفنية غير المقبولة، وغيرها مما تتسم به من سطحية في الطرح، واستغفال القارئ.

هذا دون الحديث عن منسوب الهلاوس والهذيان الذي يبثه الكاتب في عمله، بسبب تلاشي الفجوة بين تجاربه في الحياة وشخصيته المنهزمة وروايته وشخوصها. ويرى بلكبير أنه يمكن الإقرار بأن ذلك راجع أساسا إلى ترويج “صفحات القراءة” الأكثر شعبية على وسائط التواصل الاجتماعي لمثل تلك الأعمال، خصوصا وأن تلك الصفحات يديرها مراهقون أو شباب خبرتهم ضعيفة ولا باع لهم في مجال الكتاب؛ لأن مستوى مطالعتهم توقف عند المنفلوطي والروايات الشعبية الخفيفة. ومؤهلاتهم لا تسمح لهم بالحكم على مدى جودة الأعمال الإبداعية. لكن الواقع أن تلك الصفحات الافتراضية هي التي توجه جمهور القراء وخصوصا الشباب منهم نحو تلك الأعمال الضحلة.
وبحسب الروائي يتحمل النقد كذلك مسؤولية كبيرة عن تفشي تلك الظاهرة، خصوصا وأن صوت النقد أضحى خافتا، بالكاد يسمع، وهناك الكثير من النقاد الذين لا يقرأون، ولا يكلفون أنفسهم عناء تتبع الإصدارات الجديدة. وهناك أيضا الكثير من الأعمال الجادة والمتميزة ولا يوجد من يكتب عنها! في السابق كان النقاد يكتشفون المواهب والأعمال الجادة، وبالتالي يتحول الكُتّاب المغمورون إلى كتاب مرموقين بفضل النقاد، لكن المفارقة اليوم أن النقاد لا يقرأون ولا يكتبون، ولما يشتهر كاتب ما وترتفع مبيعات كتبه، يكتبون عنه مدحا أو ذما كي يخطفوا منه بعض أضواء الشهرة.

ويتابع “هناك وجه آخر للمشكلة مرتبط بالناشر، فنسبة مهمة من دور النشر أضحت أشبه بالمطابع، تنحصر مهامها في طبع الكتاب واستلام مقابل مالي من المؤلف، المهم هو المال أو الألف دولار أو أكثر، ولا يهم إطلاقا مدى جودة العمل المقدم للنشر. “الناشر الانتهازي” هو الذي يجوب المعارض العربية بحثا عن مضاعفة ثرواته مما يقبضه من أشباه الكُتَّاب وأنصاف المبدعين. وتتقاعس الجهات والهيئات المعنية عن القيام بمهامها وأدوارها في كبح هكذا ظواهر مرضية تضر بالكتاب والثقافة.

من جهة أخرى يمكن الحديث عن شبكة العلاقات التي ينسجها أولئك المنتحلون لصفة الكُتَّاب، فالمعارف والمكانة الاجتماعية والفئة/الطبقة التي ينتمي إليها هؤلاء، لهم دور مهم في استشراء الظاهرة وشيوعها في أغلب الأقطار العربية. كل هذه الأسباب وغيرها، جعلت هذه الظاهرة تعرف انتشارا كبيرا وامتدادا تجاوز الحدود والأعراف”.
كتابات تندثر

يقول أستاذ اللغة العربية في كلية واشتناو- أن آربر- مشيغان- أميركا، العراقي صبري مسلم حمادي إن “ظاهرة التطفل على عالم الكتابة ليست جديدة، صحيح أن هذه الظاهرة اتسعت الآن بشكل غير مسبوق، وذلك بسبب توافر وسائط النشر المتاحة، بيد أن كل هذا الركام الهائل من المنشورات لا يعني شيئا، وسوف يمر الزمن ويتخطاها، إن مثل هذا الزبد سيذهب جفاء ولا يمكن أن يصمد أمام الموهبة الحقيقية.
ومن خلال تجربتي في تدريس الأدب العربي الحديث بجامعة الموصل ثم بجامعة ذمار اليمنية، لاحظت أن الطلبة حين تسنح لهم فرصة اختيار النصوص الأدبية فإنهم وفي الأعم ينتقون النصوص التي تنتجها مواهب حقيقية.

وفي مجال النقد الأدبي لا أظن أن ناقدا يحترم رسالته النقدية يمكن أن يكتب عن نص ضعيف مدعيا أنه غير ذلك، وإذا كان ثمة من يجامل من النقاد تحت وطأة الحاجة المادية أو التقرب من الكاتب فإنه قد يؤثر تأثيرا مؤقتا لكنه لن يصمد أمام ذائقة الجمهور. ولن ينجح عشرون ناقدا في أن يلمعوا كاتبا فاشلا مهما كتبوا عنه، وهذا مما يندر حصوله.

ولنا في تاريخنا الأدبي درس، فما وصلنا من عيون الشعر العربي على سبيل الاستدلال هو جزء من آلاف النصوص التي اندثرت بعد يوم أو أيام من نشرها، بيد أن تلك النصوص التي حملت إكسير الموهبة الحقة هي وحدها التي عبرت حاجز الزمن ووصلت إلينا”.

ويتابع حمادي “ربما تلجأ بعض الجهات السياسية إلى تشجيع ضعاف الموهبة على الكتابة دعما لشخصية سياسية أو نظام سياسي، لكن كتاباتهم سرعان ما تندثر باندثار ذلك النظام أو تلك الشخصية، ولا ضرورة لذكر أسماء حكام وأنظمة سياسية أصدروا الملايين من المنشورات التي قد تتضمن قصائد وقصصا ومسرحيات وروايات ومقالات طواها جميعا النسيان، على الرغم من أن بعضها أنتجته أقلام ذات خبرة ربما بدافع الخوف من النظام أو الحاجة إلى المال، ولم يصمد أمام سطوة الزمن لأن النصوص التي تنتجها مواهب حقيقية هي وحدها التي تستحق الخلود”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى