كارسن ماكالرز: الشغف بأشياء عادية

كه يلان محمد
ما يجعلُ أي موضوع مادة روائية هو قدرة الكاتب على سبكه في قالب سردي وإيجاد آلية مناسبة لصياغته الشكلية، كما لا يأتي نجاح المُؤلف الروائي من التنقل بين أزمنة مختلفة وحواضن مكانية متعددة بقدر ما يكون الأمرُ متوقفاً على ذكاء الكاتب في خلق الشعور لدى المُتَلَقي بإنه يُعيدُ اكتشاف العناصر المركبة للحياة الواقعية من خلال ما يسردهُ الروائي في مُنجَزه السردي، ويلقي ضوءاً على ميزة لامرئية في أشياء عادية.

نقولُ ذلك ونعرف بأن الرواية الجديدة تحاول أن تجعل الأشياء بديلا عن الشخصيات الإنسانية في متونها. ومن هنا لا يبحثُ المتلقي عن ثيمات معينةَ طالما هو على موعد للتعرف على الجانب الحميمي فيما أهملتهُ الذائقة المُدجنة، ما يحركُ شريط السرد في رواية “أنشودة المقهي الحزين” للكاتبة الأميركية كارسن ماكالرز الصادرة من مسكيلياني 2017 هو الشغفُ برصد ما نصفه بأشياء عادية إذ مع توالي حلقات السرد على لسان الراوي العليم تتخذ الأشياء صورة كأنها غير معهودة بالنسبة لك.

تقدمُ لك كارسن ماكالرز طبيعة الحياة في إحدى بلدات أميركية حيثُ تدرك للوهلة الأولى خلو العمل من النتوءات والحشو بل كثيراً ما تلجأُ الكاتبةُ إلى تقنية الحذف المباشر وتفقزُ على مُدَدٍ زمنية طويلة لذا يكون ما هو أساسي وجوهرى في العملِ ماثلاً في مجال اهتمام القاريء، تبدأُ الرواية بجملةِ تُعَمِقُ لديك ما توحي به عتبة العنوان من أهمية عنصر المكان وما يُخيمُ على فضاء العملِ من أجواء كالحة، وإيقاع يتراوح بين سعادة خجول وحزن غليظ.

• الغريب

يُسردُ الراوي حياة الآنيسة أميليا وهي توارثت عن أبيها متجراً لبيع العلف وذرق الطيور والسلع الغذائية، تتقاطع يوميات سيرة هذه السيدة الموسرة مع يوميات البلدة الكئيبة، إذ إتسمت الحياة بالرتابة وتكرار المشاهد بجانب المتجر الذي تقطر فيه أميليا الحولاء الشراب كان هناك مصنع للقطن يقضي فيه الرجال سحابة نهارهم المثقل بالشغل.

هذا الانطباع هو ما تخرجُ عقب قراءتك للصفحات الأُولى إذ تعرف بأن صاحبة المتجر تعيش وحيدة وحققت مكاسب مالية كبيرة بحيثُ تؤهلها أموالها لأن تكون عضواً في الكونغرس على حد وصف الراوي لولا ولعها بتقديم الدعاوى القضائية حول مسائل في غاية التفاهة، لكن يقعُ ما يخلصُ مسار الحكي من الركود ويشرعُ الباب على إحتمالات وتوقعات لدى المتلقي وذلك عندما يصلُ رجلُ أحدب إلى متجر البلدة وأخذ يبكي على مرأى السيدة أميليا.

فالقادم شخص غريب الأطوار يدعي بأنَّه ابنة خالة أميليا ويأخذ بشرح بتفاصيل صلة القرابة بينه وبين السيدة الغنية إذ يذكرُ بأن أمها تدعي فاني جيسوب من تشيسياو وعندما تتزوج برجلها الأول تغادر تلك المدينة ويسمع منها الابنُ لاحقاً بأن لديها أخت غير شقيقة إسمها (مارثا) وهي أم سيدة أميليا.

وبهذا يكسبُ الرجلُ بشق الأنفس مكاناً لنفسه عند ابنة خالته، وما يثير استغراب أهل البلدة ويعطيهم الفرصة للإسترسال في إفتراضاتهم وتخميناتهم هو تواري الأحدب عن الأنظار لعدة أيام حيثُ يتداولون فيما بينهم عدة سيناريوهات منها مقتل الغريب على يد تلك المرأة ودفنه ولم يَعُدْ للرجل أثر.

وماعزز من قوة هذه الشائعة عدم فتح باب المتجر كما أن لميرلي راين تفسيره الخاص لإختفاء الوافد يُشارُ أن ميرلي يبدو بمظهر بليد ويحضر في عدة مشاهد ودوره لا يعدو تكميلياً لشخصيات أخرى، فهو كان مقتنعا بأن السيدة الغنية قتلت الرجل للحصول على ما في حقيبته، لكن يتفاجأ أهل البلدة بظهور الأحدب من جديد إذ كل الشواهد تشيرُ إلى أن الأخير يحظى باهتمام صاحبة المتجر وتقدم له أصناف الطعام والمشروبات بل ولو لم يأتِ (ابن خالة لايمن) إلى البلدة لما تحول المتجر إلى مقهى ينعم فيه عمال المصنع بالإسترخاء.

وبما أن الراوي متحكم بدفة السرد لذلك فهو ينقلُ على لسان سيدة ما يكفل نشوء علاقة عاطفية بين أميليا وابن خالتها، هنا يتوقف السردُ لتسمع رأي الراوي عن الحب ولماذا يُفضلُ الإنسانُ أن يُحِبَ بدلاً من إن يُحَب؟

زيادة على ما سبق مع توالي مقاطع الرواية منجمةً يتضحُ بأن السيدة عاشت حياة زوجية لمدة قصيرة لم تتجاوز عشرة أيام مع مارفن ميسي شقيق هنري ميسي. عانى الاثنان من فقدان الأُم والأب، فالأول عرف بعداونيته وإستهتاره وقعت صبايا البلدة في شِرْكِ غوايته غير أن هذا الطبع ما يلبث أن يتغير عندما يعشقُ أميليا ويصبحُ شخصاً مُختلفاً عما كان عليه في السابق. لكن لايتوج الحب بعلاقة أبدية لسبب لا يبوح به الراوي بل يمكن إدراكه مما يصوره الراوي لما للأيام التي عاشا فيها مع البعض قبل الإنفصال.

• العاشق الخائب

بعد فشل تجربته مع أميليا يغادرُ مارفن ميسي البلدة ويتنفس الجميع الصعداء بغياب الفتى الشرير، وتبدى السيدة أميليا إرتياحها أكثر حين تسمع خبر اعتقاله بتهمة سرقة ثلاث محطات للوقود لكن لا يمضي وقت طويل بعد أن يُطلق سراحه يعودُ إلى البلدة.

هكذا يتصاعدُ التوترُ ويتسارع الإيقاع وصولاً إلى ما يعقبُ من الأيام مع رجوع مارفن ميسي، عوضاً أن يقع اصطدام بين زوج سابق وعشيق جديد للسيدة أميليا كما يفترضُ القارىء هذا الإحتمال.

يكون الأحدب تابعاً لمارفن ميسي دون أن يثير ذلك التصرف غضب أميليا، أو يؤدي إلى نفورها من (ابن خالة لايمن) فيما يستمرُ الأحدب في مصاحبة (مارفن ميسي) في كل الأمكنة.

يواصل كل من السيدة أميليا ومارفن ميسي التلويح بالتهديد ضد بعضهما البعض، بصرياً فعلاً تحضرُ أميليا نفسها لمواجهة حاسمة مع غريمها ربطت كيساً خيشياً مملوءاً بالرمل بأغضان شجرة الليلك الهندى وظلت تلطمه كل صباح، بالمقابل يرتفع عدد الزوار الى المقهى مترقبين المواجهة بين صاحبة المقهى ومارفن ميسي، ويتم تجهيز مسرح المبارزة حتى الناسك الذي كان بعيداً عما يجري في البلدة ما أن تناهى إليه الخبر بما يتوقع حدوثه حتى يصل إلى المقهى ويستطلع الحشود.

برع الكاتبُ في رسم حالة الترقب واندماج الحضور في اللحظة بحيثُ ينصب كل الإهتمام لما يدور على الخشبة، ترجح الكفة لصالح أميليا وتطيح بخصمها أرضاً لكن ما يراه الجمهور غير متوقع مرة أخرى إذ ينقض الأحدب على المرأة وتنقلب المعادلة رأساً على العقب وتنهزم السيدة أميليا ومن ثم يعيث الاثنان في ممتلكاتها فساداً، ويغادران البلدة. وتبقى أميليا وحيدة.

هذا العمل بقدر ما هو بسيطُ في الأسلوب بقدر ما هو عميق في الدلالة والتأثير على المشاعر، ويكشف ما تختزنه بعض الأشياء العادية من شحنات حميمية هائلة. وأنت تطوي الرواية لا تغادرك المشاهد كأنك شاهدت فيلما للتو.

(ميدل ايست أونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى