لوركا الأندلسي

خيري منصور

ما إن يرد اسم الشاعر غارسيا لوركا في أي سياق نقدي حتى يشع اللون الأخضر من حوله، فهو رغم أطياف قوس قزح التي لا تفارق قصائده، بقي مقترنا باللون الأخضر، بكل دلالاته الربيعية وخصوبته.
وقبل صدور كتاب الشاعر محمود صبح عن لوركا والألفاظ العربية في أشعاره، قبل عامين عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، كانت هناك إشارات وإيحاءات حول أندلسيته، ومنها مقالات متفرقة إضافة إلى المراثي، التي كتبها عنه شعراء عرب منهم صلاح عبد الصبور ونزار قباني ومحمود درويش وآخرون، بعد أن تحول اسم لوركا إلى رمز متعدد الدلالات، بعد مصرعه في الحرب الأهلية الإسبانية.
لكن كتاب الشاعر صبح عنه، وهو المتخصص في الأدب الإسباني، إضافة إلى كونه شاعرا بالإسبانية، وضع النقاط على الحروف، وقدم قائمة بالمفردات العربية التي استخدمها لوركا في قصائده، ومنها للمثال فقط: البلور والجُب والخزامى والخيري والدفلى والقصر والمسك وغيرها، ما يجزم أن لوركا نتاج ثقافة عربية وإسبانية معا، وهذا ما كان يعنيه بابلو بيكاسو حتى قال، إن لوركا نتاج تلك الثقافة التي صهرت عدة مكونات وعناصر. أما الشاعر التشيلي بابلو نيرودا فقد قال، إن لوركا نتاج أندلسي بامتياز. وأرجو أن لا يُفهم من ذلك أننا نحاول تعريب لوركا وتهجير نسبه، فالإبداع لا علاقة له بالأحوال المدنية والهويات، لأنه عابر لها بإنسانيته وشمولية رؤاه.
لقد تُرجمت أعمال لوركا إلى العربية عدة مرات، وبالطبع تفاوتت الترجمات تبعا لمن قدموها، وهي مناسبة نموذجية للمقارنة، خصوصا أن منها ما ترجم نظما تماما كما حدث لأشعار ت. س. أليوت، التي ترجمت ست مرات على الأقل، وبتفاوت يستدعي المقارنة. وهناك مقالات نشرت بالعربية عن الألوان في قصائد لوركا وعن مكونات الصورة الحسية لديه، وقد تكون مرثيته لمصارع الثيران من أشهر قصائده، إضافة إلى مسرحيات في مقدمتها «عرس الدم». وحين كتب الناقد باورا عن التجارب الخلاقة في الشعر، أفرد فصلا للوركا، لما تقدمه أشعاره من معادلات حسية لما هو مجرد، وهنا نتذكر للمثال فقط إحدى الصور الشعرية النادرة التي وصف بها مصارع الثيران، وهي أنه كان نهرا من الأسود التي تعدو، أو ما عبّر عنه في قصيدة «المتزوجة غير الوفية» حين وصف صوت تنورتها المنشاة، التي تصدر صوتا كقطعة من الحرير تمزقها عشر سكاكين، أو أفق من الكلاب كان ينبح بعيدا عن النهر. ومن المعروف أن لوركا سافر إلى أمريكا ومكث فيها فترة من الزمن، لكنه لم يتعلم كلمة إنكليزية واحدة، وأحس بالاغتراب، فاللغة أحيانا تصبح وطنا، وهذا ما عبر عنه الشاعر الجزائري مالك حداد، الذي كان يكتب بالفرنسية قائلا إن اللغة الفرنسية منفاي والعربية هي وطني. وليس عسيرا على الناقد الحصيف أن يرصد تأثير لوركا على الشعر العربي الحديث، وهو تأثير راوح بين المباشر وغير المباشر. إن أندلسية لوركا ليست فقط في معجم المفردات العربية المبثوثة في قصائده، بل في مناخات نفسية واجتماعية سادت في تلك المرحلة، وهناك صور التقطت له بالزي العربي التقليدي. ويقول الصحافي خيل بن أميُة، إن لوركا حين سافر إلى أمريكا حمل في داخله غرناطة، ثم أخرج خنجره ليقوض ناطحات السحاب في مانهاتن، والمفارقة هنا أن خنجر الشاعر ليس خنجر الإرهابي، لأنه يمزق الكلمات لا ناطحات السحاب، لهذا اغتنت مانهاتن بزيارة الشاعر لها بقدر ما دفعت الثمن حين زارها رغما عنها المتطرف المضاد للشعر وكل الفنون .
وأصدر لوركا بعد عودته من أمريكا ديوانا بعنوان «الشاعر في نيويورك» وكان صديقه بابلو نيرودا قد اقترح عليه أن يسميه «مدخل إلى الموت»، ولعل الشاعر بعد عودته إلى وطنه شعر بأن الغرب المعاصر فارغ من المشاعر الإنسانية والروحانيات لانهماكه في العالم المادي، كما أن لوركا تألم كثيرا من العذاب الذي يعانيه في نيويورك الأفارقة والسوريون .
ويروي نيرودا في مذكراته، التي ترجمها الشاعر محمود صبح إلى العربية، أنه التقى لوركا لأول مرة في بوينس أيريس، وكان قادما لتدشين مسرحية «عرس الدم»، وبعد أن تعارفا اكتشف الاثنان أن الخصوم من أشباه الشعراء بدأوا بتدبير المكائد، بحيث بلغ الأمر ببعضهم إلى دفع رشاوى للفندق والطهاة والعاملين لإفساد الاحتفال. لكن نيرودا ولوركا معا عبرا ذلك الزمن ولم تحُلّ كراهية الخصوم وحسد الأشباه دون بلوغهما هذا المستوى من العالمية والإجماع الكوني على اهمية ما أبدعا من شعر ومواقف.
إن اعتراف لوركا بأندلسيته يرد في نص صريح يقول، إن الأندلس شيء لا يصدق، إنه شرق بلا سموم وغرب بلا نشاط. ويقول أيضا في السياق ذاته: إن العربي نحمله جميعا في ذواتنا. ويقول أيضا إذا ولولت امرأة في حي البيازين في غرناطة على وليدها، فإن ما تنوح به هو أنين وحنين، وأن السواعد النادبة والضفائر الشعثاء لتنم عن خذلان الحظ وعن اعتقاد بالقضاء والقدر وهو اعتقاد إسلامي حقيقي.
وحين كتب محمود درويش بعد نصف قرن من رحيل لوركا عن غيابه الساطع وظلّه الأخضر، كان قد استشعر في داخله صدى لذلك الصوت الجريح، لأن الشعرية المصفاة من شوائب التاريخ وضغينة التعصب لا تصدها أو تعوقها لغة أو هوية أو ثقافة، لأنها تنبع من ذلك المشترك البشري النبيل.
ومن المفارقات أن لوركا ولد في الخامس من حزيران/يونيو عام 1898، هذا اليوم الذي أصبح أشبه بعورة في تقاويم العرب المعاصرين.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى