فنان أميركي يعيد طرح السؤال عن وجود الجسد على الشاشة

عمار المأمون

اشتهر الفنان الأميركي بيتر كامبوس منذ سبعينات القرن العشرين كونه مصوراً فوتوغرافياً وفيديوياً، معتمداً على التشكيل البصري الرقميّ في أعماله التي انتشرت في كل أنحاء العالم، كونه يختبر حدود تقنيات تصوير الفيديو التقليديّة أشبه بفنان تشكيلي يختبر قدرة ضربات الريشة على التعبير، حالياً تشهد صالة “jeu de paume” في العاصمة الفرنسيّة باريس المعرض الفرديّ الأول لكامبوس بعنوان “video ergo sum”، الذي يحوي مجموعة من أعماله التي تختبر تقنيات عرض الجسد على الشاشة ومعنى الحضور الرقميّ عبر سلسلتين من الأعمال، الأولى تشمل أعماله في سبعينات القرن الماضي، والثانية ترتبط بأعمال التجهيز التي أنجزها باستخدام التصوير الفوتوغرافي وتقنيات الفيديو.

أول ما يثير الانتباه في المعرض هو اسمه، بوصفه تحويراً للكوجيتو الديكارتي باللغة اللاتينية “cogito ergo sum” أو” أنا أفكّر إذن أنا موجود، ليصبح “فيديو إذن أنا موجود” أو “أنا أرى إذن أنا موجود” حسب الترجمة اللاتينيّة الحرفيّة، طارحاً التساؤل المرتبط بمفهوم الوعي بالوجود الشخصي، بحيث يعاد تشكيل الجسد “الفيزيائي” على الشاشة، لتتغير طبيعته نحو جسد سايبري مكوّن من بيكسلات ونقاط ضوئيّة، ليُعاد طرح السؤال الوجودي المرتبط بالأنا الفيزيائية ضمن المكان والزمان، فأيّ الجسدين هو لي حقاً، وخصوصاً أن الجسد على الشاشة يتجاوز الدور الاجتماعي والقيود الجسديّة والاجتماعية، إذ يكوّن “اللحم” على الشاشة عبر احتمالات لا يمكن أن توجد “واقعياً”، لنشهد انفلاتات خارج “الماديّ” نحو فضاء صوريّ له قوانينه الخاصة.
أعمال كامبوس تعكس تساؤلاته المعرفية والنفسية والسينمائيّة منذ سبعينات القرن العشرين وخصوصاً دور التكنولوجيا في تغيير الوعي بالذات سواء على الصعيد النفسي أو المفاهيمي، إذ يطارح بدائل رقميّة عن الفضاء وتقنيات التلقي عبر تحوير جسده الشخصي على الشاشة، وارتباط ذلك بتكوين الهوية سواء على الصعيد الاجتماعيّ أو النفسي، فالفيديو يسمح بالتلاعب بمفاهيم الانتماء الحتمية المتعلقة بالشكل واللون واللغة، لتتفكك عناصر الجسد وذراته كالبيكسلات ثم يعاد تكوينها وفق هوى الفنان، متحررة من علاقات القوة والهيمنة التي يفترض بـ”الجسد الاجتماعي” الانصياع لها إلى جانب سطوة المكان والزمان اللذين يصبحان مائعين، فالصورة تتكرر وتعيد إنتاج ذاتها مراراً دون أيّ شرط سوى ذاك التكنولوجي المرتبط بتقنيات التشغيل لا بأنظمة التقنين السياسيّة.

نشاهد في المعرض فيديو بعنوان “ثلاثة تحولات”، نرى فيه جسد الفنان يتفكك ثم يعيد إنتاج نفسه مشوهاً ثم سليماً، ثم متداخلاً يمزق نفسه ثم يلصقها،أشبه بانقسام خلويّ لا نراه إلا في حالات ما قبل تطور الوعيّ بالذات، أو تحت مجهر يرصد التحول الدائم للجسد “الآن وهنا” على صعيد ذريّ، لتظهر تساؤلات الوعي المرتبطة بالكوجيتو الديكارتي، فأنا موجود في اللحظة التي أُدرك فيها وعيي الذاتي “الآن وهنا” وفقط “الآن وهنا”، في لحظة واحدة فقط يتغير بعدها كل شيء، فغياب الثبات الذريّ يعني أن الكوجيتو الديكارتي يرتبط بالوعي بالتحول فقط، لا نقطة ثابتة للقياس، بل مجرّد وعي بالحركة.

يطرح المشاهد أمام أعمال التجهيز التي يقدمها كامبوس تساؤلات ذاتية مرتبطة بوعيه بذاته، وإدراكه لجسده ضمن الفضاء، وانعكاسه على الشاشة ضمن محاولة للتشكيك بهذا الإدراك المرتبطة بأنظمة تكوين الأنا، فكامبوس يعيد تعريف مرحلة المرآة اللاكانيّة، كون الانعكاس على الشاشة (الوسيط) يشكك بالحضور الجسديّ ذاته، فالشاشة تفتح مجالات أوسع لتكوين صورة “الأنا” والتلاعب بها دون أيّ حد، ويصف كامبوس الذي درس علم النفس ثم السينما تقنية عمله بقوله “ما أسعى إليه في أعمال التجهيز التي أنجزها هو أن أدخل الزائر في علاقة مع انعكاس ذاته، لأتلاعب بعدها ببعض الصور أو الجوانب التي تتعلق بهذه الذات وإدراكها”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى