ذاكرة علي سيد علي فوتوغرافية

يسري عبد الله

رتحل المصري علي سيد علي إلى مكان مغاير عن عالمه الأثير الذي طرحته روايته «الشهير بسراييفو»، حيث البنايات الشعبية الضيقة، والأمكنة النزقة بروح المهمشين وعفويتهم. يراوح علي بين أمكنة مختلفة في روايته «اتجاه المرج» (روافد). يذهب إلى شوارع وسط البلد، ومترو الأنفاق، وصالة التحرير الصحافي، في القاهرة ويعاين في إسطنبول، عوالم التطرف الديني، المغلف بروح استهلاكية محضة. غير أن البنية الاجتماعية المسكونة بتناقضات فادحة لم تزل تطارد السارد/ البطل، وتهيمن على الرواية بوصفها فضاءً مركزياً للكتابة، فتلوح عوالم الفقر والبطالة والظلم الاجتماعي، مثلما تلوح عوالم التغييب والخفة الحاضرتين عبر شخصيتي «فاطمة إسطنبول/ فاطمة القاهرة»، فكلتاهما تعلن أنها ليست من «الإخوان»، لكنها تحترمهم.

تتأخر الإشارة النصية إلى العنوان حتى نهاية الرواية: «يا عم سيب الباب. هاتتجاب هاتتجاب. هاتروح منهم فين؟ ده انت في اتجاه المرج» (ص 105) بعد أن تواترت الإشارات إلى المكان المعبأ بالبشر والمشكلات.

ولا تبدو الكتابة هنا عن فضاء مكاني بعينه، بل نحن أمام كتابة عن عالم غارق في الفوضى والعشوائية والتصور الاستهلاكي، والمرور عليه أيضاً كان عابراً، في شكل يجعلنا أمام لوحة بتقاطعات مختلفة، أقرب إلى الكولاج، حيث كل شيء حاضر ولكن بقدر يسير للغاية. فالمهمشون والمتطرفون والسلطويون والمزيفون والحقيقيون والمثقفون والمتثاقفون كلهم حاضرون هنا في الرواية. ويبدو المس خفيفاً من جانب الكاتب لجملة من المآزق الحياتية الراهنة.

ينهض النص على آلية المفارقات الساخرة التي تتواتر طيلة الرواية، فثمة روح ساخرة تهيمن منذ المفتتح وحتى الختام، ويتجادل خطان في السرد أحدهما راهن وثانيهما ماضٍ قريب. وما بين البدء من خط القص الرئيس ثم العودة عبر آلية «الفلاش باك» إلى الماضي القريب حيث رحلة السارد/ البطل إلى تركيا في مهمة عمل صحافية، تنتهي الرواية من دون إنجازها. وعبر المشاهدات المتداخلة بين شوارع إسطنبول والقاهرة، تتحرك مشاهد الرواية، يربط بينها السارد ذاته، ونظرته إلى الجماعات الدينية وموقفه منها، وعلاقته الرحبة بالعالم، التي تأخذ طابعاً عدمياً أحياناً. فالترامادول (عقار مخدر) وحشيشة الكيف والأصدقاء «ضيا، وسعيد، والطلياني»، مؤشرات على عالم يلتحم فيه الذاتي مع الموضوعي. المناخ العام بقسوته وبطشه يدفع بشخوصه العابرين صوب التحلي بروح مهشمة في جوهرها العميق، تبحث عن نجاتها الفردية عبر خلاص جماعي تارة، أو عناق لعالم متمرد تارة ثانية.

تبادل الدهشة والألفة والجد والهزل والمواجهة والمواءمة شكَّل صيغة لذهنية الشخوص داخل الرواية، والأهم هنا تلك العفوية التي يقدم بها الكاتب شخوصه. هي العفوية ذاتها التي تجعل رهان الثقافة البصرية يتسرب إلى النص. ثمة كتابة تحتفي بالتفاصيل الصغيرة والدقيقة: «أصعد بالأسانسير الحديث الذي يتنافر مع مظهر العمارة العتيقة، إلى الدور السابع حيث المكتب، فأجد لافتة نيون كبيرة تحمل اسم (المجموعة المتحدة للاستشارات القانونية). وتشير إلى الباب المفتوح، فأتقدم نحوه، وأجد نفسي في صالة واسعة، خالية من أي بشر، على جنباتها رُصَّت كراسي فوتيه جلد للضيوف والعملاء. قبل أن أتورط في الحيرة، تظهر في الطرقة فتاة قصيرة، تبدو نحيفة تحت طرحتها التي لفَّتها بطريقة جعلتها أشبه بالخمار، فلم أنتبه إلى ما ترتديه تحتها من ملابس، أهي من جزءين: بلوزة أو تايير أو ما شابه مع جيب واسع، أم من جزء واحد: عباءة كالتي اشترتها زوجتي منذ عامين بمناسبة فرح شقيقتها الصغرى وسمَّتها العباية التركية» (ص 23).

يتعدد الأداء اللغوي في الرواية، ونرى كسراً للإيقاعات الثابتة على نحو واضح، من قبيل: «لم ألتفت إلى الساعة في المرة الأولى، فأنظر إلى شاشة الموبايل مرة أخرى، فأجدها الحادية عشرة و32 دقيقة، ما يعني أن ما يقرب من ربع الساعة ضاع في حوار عبثي، مطالب فيه أن ألبي رغبة فتاة أراها للمرة الأولى، بأن أحكي لها عن حياة الإخوان في إسطنبول» (ص 30). هناك ميلٌ إلى التوثيق في بعض المقاطع، فضلاً عن عدد من الإشارات المتواترة إلى كُتَّاب حقيقيين وعوالم مجازية، ناظم حكمت، عزيز نسين، حنا مينا. تعد علاقة الفوتوغرافيا بالذاكرة أحد الأبنية التي تعتمد عليها الرواية، فكل صورة فوتوغرافية تقرب لنا مشهداً بعيداً حدَث في إسطنبول، وعبر ذلك تتم آلية الاستعادة لما فات، وتتواتر تقنية الصورة الفوتوغرافية/ الذاكرة، في أكثر من مشهد.

لم يفارق الحس الصحافي المتنَ الروائي في بعض المواضع، وتظل أغنية نجاة «الطير المسافر» تمثل خلفية مناطق عدة في السرد، وكأنها محاولة لامتلاك الهدوء، مع بطل متوتر داخلياً.

وينتهي النص مثلما بدأ، في تفعيل للبنية الدائرية التي تفضي إلى متاهة كبيرة تلف العالم، وقبلها يوظف الكاتب تقنية الحلم، الذي فارق الحقيقة: «لأيام كثيرة تألمتُ وأنا أفكر في نظرة شيرين، بينما أستيقظ الآن مندهشاً من حضور اللبيسة وطفلتها فقط، وغياب الفنانة عن حلمي»، والذي يبدو وكأنه إحساس عارم من اللاوعي بالندم على ما جاء في الواقع لأنه لم يتعاطف مع بطلته القديمة، الممثلة شيرين/ لينا في مسرحية «المتزوجون»: «لم أنس تلك الليلة، حينما التقت عيناي بعيني الفنانة شيرين، في رمسيس، عند نهاية شاعر عماد الدين، كانت تقف بسيارتها، الساعة الثالثة صباحاً، منتظرة نزول اللبيسة وطفلتها، بينما كنتُ متجهاً إلى الميكروباص. شعور بالذنب ظل يطاردني لأيام كثيرة، وأنا أستدعي نظرتها الحزينة، وكأنها تعاتبني: يعني انت مش عارفني؟» (ص 116).

تأتي هذه الرواية لعلي سيد علي بعد روايتين: «كشف هيئة/ الشهير بسراييفو»، وتنبئ عن كتابة جمالها في بساطتها اللافتة، عليها فقط أن توسع هامش المعنى، وتعمقه أكثر، متخلية عن النظر العابر أحياناً. أما جدارتها الحقة فتتمثل في انحيازها إلى الجمالي، بدءاً من الاستخدام الدال للغة التي تعد ركيزة أساسية في مشروع الكاتب، ووصولاً إلى المتعة الفنية التي لا تقع في «اتجاه المرج» في فخاخ الاستطراد، والترهل، والتكرارية.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى