فيلم «البائع» للإيراني أصغر فرهادي: لعبة الأسرار ولغة الدوائر

عبدالله الساورة

فيلم «البائع» (2016/ 125 دقيقة / إنتاج فرنسي/ إيراني) للمخرج الإيراني أصغر فرهادي، قطعة فنية من الكمال المهين، لأن المخرج يدفعنا منذ البداية لتحديد ما هو الإذلال؟ يستعيد المخرج «الكرافيزم» الوجودي والإنساني الجريح في أفضل أعماله السينمائية «ويلي»، «نادر وسيمين»، «انفصال»، «الماضي»، «البائع» بشكل تتابعي دون أن يتوقف عن البحث في لغة سينمائية تتخطى الحدود، وتقف عند النفس البشرية مسائلة شكها عن مفاهيم الحب، الصداقة، الموت والقدرة على فهم الآخر.
يقال دائما إن المخرج الجيد هو الذي يصيب بسهمه وسط الدائرة والمخرج الرائع من يفكر كيف يصيب وسط الدائرة.. والمخرج أصغر فرهادي من طينة المخرجين الذين يفكرون كيف يصيبون الدائرة بلغة سينمائية، تمتح من قدرته على منح الشخصيات أسئلة قلقة وأفقا غير منتظر. مخرج يبحث في دلالات الصور وله قدرة على بناء الشخصيات وعلائقها المعقدة من حيث تأثيرها على المسارات/ التوجهات الميلودرامية للفيلم بشكل عام.
يبدأ الفيلم في سكون ولكن بعد تعنيف المرأة تظهر بوضوح المقدرات الدرامية لهذا المخرج… يقينه أن كل شخصية داخل الفيلم لها أسبابها، وأنها تمر بالتناوب من النور/ الشفافية إلى الظلام/ التستر، وبداية الانهيار التدريجي لعلاقات المحبة التي جمعت بين الزوجين والمغتصب في الوقت ذاته، حينما يتحول الاعتداء الجسدي أو المعنوي إلى تهديد كيانها ووجودها الأسري مع ما يصاحبها من رغبة ملحة في الانتقام، وضرورة الغفران للحد من التدمير الذاتي، وهو ماكياج اجتماعي يحاول الزوجان إخفاء ما قد انكسر بالتأكيد.
يقرأ فيلم «البائع» بالنسبة للمخرج على ضوء التعقيدات الإنسانية والأجواء العائلية لمجتمع محافظ بشكل عام، وأسرة متحررة نسبيا، بشكل خاص. لنجد بعد ذلك طبقات ودوائر متعددة في الفيلم. نكتشف في الفيلم الجوانب المظلمة للروح، عبر حبكة تروم الانتقام واكتشاف مجاهل النفس للشاب عماد، وهو يعمد للانتقام لزوجته، رغم ثقافته وتحرره الفكري، فهو رجل بكبرياء مجروح، يشعر بنوع من الإذلال والمهانة.
تتعدى لغة المخرج في الحكي لغة أولى، حيث يصف فرهادي كل هذا بطريقة خفية، عن وعي تام بتعقيدات الكائن الإنساني، مازجا إياها بالمشاعر عندما تتواجه مع الوضعيات القصوى. هذا الفهم لا يمنحها لا الصلابة الكافية ولا الوضوح التام، ولكن هناك نوع من خلط الأوراق ولعبة التستر.
يرسم المخرج تصاميم هندسية جغرافية دقيقة تهدف إلى شل/ عدم تحريك فكرة مجردة، بل فكرة بواقع معاش. يعمل عليها في إيجاد وبناء هذه العلائق، وفق تصاميم مسبقة ومخطط لها. مخرج بروح باحث يخفي أسرار شخصياته بذهنية مكتوبة من طرف مهندس.
تكمن فلسفة هذا المخرج الإيراني في أنه يرى أن المعرفة المشتركة للحقيقة تكمن تحت مظاهر الإدراك اليومي، وهو على خطى المخرج البولندي كريستوف كيسلوفسكي، إريك رومير، جاك ريفيت أو مثل كلود شابرول، أو تحت ظلال فريتز لانغ. بهذا المعنى فالفيلم هو تكريم للفعل المسرحي كلغة عالمية، وتكريم لأرثر ميللر مبرزا أن الفشل وتدمير السلام والأحلام هي نتائج للابتعاد عن المبادئ الأخلاقية.
تلعب الدار والمدينة دورا مركزيا في سينما أصغر فرهادي، وتتشابه كثيرا مع أجواء مدينة نيويورك، كما عاشها أرثر ميللر في مدينة طهران، وكما عاشها فراهيدي.. كلا المدينتين لحقهما تغيير رهيب.. زحف جغرافية الإسمنت على المناطق الخضراء بشكل فوضوي وغير عقلاني، وكبت مستتر ومدى تأثير ذلك على حياة الأفراد والأمكنة. لهذا يضيق المكان في الفيلم كثيرا من عمارة على وشك الانهيار إلى شقة مستأجرة إلى غرفة لعاهرة مقفلة، ودلالة هذا الإغلاق في مجتمع محافظ إلى ركح مسرح.. إلى جلوس في مقاعد سيارة صغيرة.. إلى سطح العمارة في رمزية للتسلق الطبقي لبطلي الفيلم، اللذين ينتميان للطبقة المتوسطة. كل هذا تم تصويره بلقطات متنوعة من فوق/ تحت، لقطات جانبية، لقطات ملتصقة بالشخصيات، لقطات متحركة.
يتجه المخرج إلى استعمال تقنية الأداء المسرحي كوسيلة تعبيرية لإيضاح الميتا ـ سينمائية للعمل بشكل مضمر، ولإعطاء فيلمه علاجا وصفيا ورمزيا، لمأساة رجل عادي في مجتمع ذكوري بلا مبادئ. يضع المخرج انفصالا ثقافيا وجنسيا ناجحا، حيث يترك المرأة كعنصر معقول داخل مجتمع يتجذر فيه النظام الأبوي العصري لكنه لا ينضب داخل مسميات متعددة باسم الحداثة. فبطل المسرحية أرثر ميللر يقول إن ابتسامة واحدة تفتح الكثير من الأبواب، أما بالنسبة للمخرج فابتسامة واحدة تفتح الكثير من المآسي. لذا ألبس المخرج شخصية عماد، كشخصية محورية أقنعة متعددة: الممثل المسرحي رفقة زوجته رنا الممثلة، أولا ثم المثقف المنتمي للطبقة المتوسطة والراغب في تجاوز وضعه الاقتصادي والاجتماعي المتصدع والمنهار، ثم الزوج الحائر بين أصناف الحداثة والتقليدانية. يعيش الزوجان عماد ورنا حياة أسرية منسجمة، وبعد اغتصاب الزوجة يبحث عماد عن الانتقام أكثر من مواساة الزوجة والوقوف إلى جانبها، وبالتالي أضحى برنامجه اليومي البحث في تفاصيل الاعتداء والتدقيق فيها باحثا عن خيط ناظم يوصله إلى الجاني.على عكس الزوجة رنا تعرف مسبقا أن ما يجنيه زوجها من الانتقام هو المزيد من العذابات والقلق والتوتر. طارحة سؤالا عميقا إلى أين يقود الانتقام والثأر؟ تعيش الزوجة /المرأة/ الإنسانة بهذا المعنى اضطهادا نفسيا واجتماعيا، تلاحقها نظرة الآخرين في غياب أي معنى للزوج.
يمنحنا الفيلم بعدين تاريخين: البعد الأول (1949) وصف للأسرة النووية دخل المجتمع الأمريكي، وبداية التحولات الكبرى لهذا المجتمع داخل المسرحية. البعد الثاني (2016) وصف للأسرة النووية داخل المجتمع الإيراني والتحولات الكبرى التي تظهر على هذا المجتمع. بين التاريخين مسافة سبق وتحول بين مجتمعين ونظرتين متغايرتين لمجتمعين يعيشان تناقضات صارخة، الأول بمفهوم رأسمالي/ معولم، والثاني داخل مجتمع محافظ بدلالات دينية، في إطار معولم. عولمة المسرحية وتمثيلها من طرف مثقفين إيرانيين، رغم أوجه التباعد والتناقض بين السياسات الحاكمة والمتحكمة في المشهدين معا.
حكي أفقي للبحث عن هدف تتخلله مساحات عميقة تعمل بشكل أدبي على إدخال الحكايا السرية لقلب الحكاية وإلى مدارات الحكاية الرئيسية. كل سر في الفيلم يقود إلى عقدة ومجموعة مشاهد فيلمية متنوعة… بهذا المعنى الفيلم عبارة عن مجموعة من المتواليات يترك للمشاهد فرصة اقتراح وتخيل النهايات والحلول المقترحة. وإشراك المشاهد في لعبة المتخيل الفيلمي. دلالة موت البائع المتجول سينمائيا هو موت رمزي للشغف الذي كان متدفقا في الحياة المسرحية في البداية، مخفيا الشك القاتل للرجل، وفي المعاناة النفسية التي تعيشها الزوجة وفي نظرة الاحتقار التي تخيم على المغتصب الخمسيني، أمام أفراد عائلته وفي الغرفة التي تحتوي بقايا سفالة أخلاقية في مجتمع يدعو للتطهر من دعارات مختلفة.
تمتاز سينما فرهادي بمهارات إبداعية بارعة تستكشف قضايا الشرف ورموزه والتوترات الأسرية ومفاهيم العدالة. وهي سينما محاطة بحساسية إبداعية تغترف من البسيط نحو المعقد.
يحيل عنوان الفيلم «البائع» إلى «بيع» منتوج ثقافي أو استيراد قيم إنسانية يراد تسويقها من قبل الممثل والممثلة للجمهور الأكبر، عن قيم الحب والسلام والتعايش مع الآخر، ولكن داخل الأسرة يعيش الزوجان حالة من الشك والحيرة والانتقام. العاهرة داخل الفيلم بغرفتها المظلمة والمغلقة، تدل على الوجه المحافظ للمجتمع على قبول هذه الممارسات سرا، ورفضها علانية باسم الدين. بعبارة بسيطة المخرج يقدم مجتمعا متناقضا كذبه أكثر من صدقه.
يتقن المخرج لعبة المايسترو، مع ثلاث شخصيات فيلمية محورية في شقة فارغة، مستخدما الحوارات البسيطة والحركات الخفية الكاملة الدلالة والمعنى، تجعل قلب المشاهد يكاد يخرج من صدره. سينما بنهايات مكثفة وبلا تنفس. فالنهاية في لغته السينمائية ليست مفهوما تافها من المأساة، باعتبارها عنصرا ضروريا من التجربة الإنسانية. المخرج له براعة كبرى بما راكمه من تجارب فيلمية في إتقان لعبة الأسرار ولغة الدوائر السينمائية بامتياز. بلغة سينمائية متفردة يحصد للمرة الثانية جائزة الأوسكار في دورتها 98 عام2017 عن أفضل فيلم أجنبي غير ناطق باللغة الإنكليزية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى