الذاكرة والمكان في «أخبار آخر العشاق» لبرهان الخطيب

صالح الرزوق

تبدأ رواية «أخبار آخر العشاق» بمشهد يدور في البادية، ويتحدث عن اعتقال نسر مريض، وتنتهي بمشهد يتناول ما تقول عنه إنه (طائر الثلج)، وهي شوارع وطبيعة بلاد الشمال الباردة التي تغطيها الثلوج.
ولا يخفى على أحد أن صورة الطير في البداية رمز للحضارات النارية. وهو دائما يشرع جناحيه للتحليق. بينما طائر الخاتمة هو بلورات الثلج الأبيض، التي تطير في الفضاء وتهبط وتتراكم على الأرض، والمسافة بين الرمزين واضحة، من التمرد على المكان إلى الرغبة بالاستقرار والانطواء على الذات. وبين هاتين النقطتين، الصعود والتحليق ثم الهبوط، تدور مجموعة من التطورات الجانبية التي تتابع مصير نماذج مختلفة من البشر، تورطت في مواجهة أحداث طارئة كحرب السويس، في فصل «بأمر السيد» والانتقال من العهد الملكي إلى الجمهوري في، «بيت الجن»، والحرب الأهلية في» «نزال مبكر» إلخ.
في هذا العمل يراهن برهان الخطيب على عناصر من الواقعية الاشتراكية وبلبوس طليعي أو ليبرالي متحرر، ولذلك ركز على حياة شخصياته التي تعيش في المنفى، وعلى تمزقها بين ذاكرة افتراضية ومكان غريب، أو بتعبير الناقد الأدبي حمزة عليوي: ضياع الشخصيات بوصفها الممثل لسرديات الأمة وتاريخها. فالذاكرة، نقلا عن وين جين أويان، هي تاريخ أيضا. والحاجة للذاكرة هي أيضا حاجة للتاريخ. وهذا يعني ضمنا، بالعودة لحمزة عليوي، توسيع فكرة النوستالجيا وإعادة صياغة الماضي. وعلى هذا الأساس اختار لمحور الرواية أن يكون عبارة عن صراع مرير بين مضخة مياه يتحدى بها الإنسان بيئته القاحلة، ومندوب حكومة لديها برنامج في الإصلاح والتجديد. وقد ربط هذا الأسلوب فصول الرواية. أما الحبكة فلم تكن تدين بشيء لتطوير الأحداث، ناهيك عن العقدة التي تفرعت منها تفاصيل إضافية، وهي بناء الشارع الجديد. فقد استغلت الرواية هذا الحادث لتصوير صراع الأجيال، وما ترتب على ذلك من يقظة، أو كما ورد في الخبر رقم 3 من ذوبان في ضوء الشمس، أو نار الحقيقة.
وأرى أن قصص هذه الرواية تشبه قصص «النهايات» لعبد الرحمن منيف، فهي تلقي نظرة ثاقبة على علاقة البادية بالبدو، والصحراء بالطبيعة، ولكن الواضح أن الاتجاه والمنطق مختلف عند الكاتبين: من تركيز على النهايات عند منيف، وكيف انتصر جبروت البادية، وهي رمز للأصالة والأرض والإنسان المحلي، على التحولات، إلى تركيز على البدايات عند الخطيب: كيف حاول الإنسان أن يربط نفسه بما يحصل خارجها، وأن يتفاهم مع عالم متحرك في ثقافة راكدة.
وهناك (في حالة برهان الخطيب) عدة لمسات واضحة وعاطفية تشير لرغبة ابن البادية في الانفصال عن واقعه (الانتقال لخارج المكان – الرحيل) وهو ما تعبر عنه الحكاية من خلال الرغبة بالسفر وعبور الحدود. ولا يخفى على أحد أن هذه الرؤية تنطبق على المضمون والأسلوب، فالرغبة في الابتعاد عن المكان، توازيها رغبة في تجاوز الرواية الكلاسيكية لرواية متعددة المحاور والموضوعات، ولذلك لم يكن مستغربا أن يكون شعاره تصوير شخصيات (حرة كالريح) وتبحث عن التوازن مع مطلق عناصر الطبيعة. وإذا كانت خاتمة روايته السابقة «أخبار آخر الهجرات» فصلا تدور أحداثه على ألسنة الحيوانات وهو، «للغزلان ديرة»، فإن هذه الرواية تنتهي بخلود الإنسان للراحة، واستسلامه للسكون، تحت غطاء من الثلج الأبيض النظيف. وهو ما يذكرنا بواحدة من أهم عناصر أدب الواقعية الاشتراكية في فترة صعوده، وأقصد بذلك النهاية الإيجابية التي تحسم الصراع لصالح التوازن مع الطبيعة، ولكن يجب ألا نفهم أن برهان الخطيب يكتب وفي ذهنه شروط وتعليمات مسبقة، فقد كتب انطلاقا من عدة مصادر. وفي المقابل كان كل محور روائي لديه يتطور من نقطة تأزم حتى يصل لنقطة تنوير، مع حذف المقدمة والتمهيدات، كما هو حال كل الدراما الرومانسية حينما تقوم بإدارة ما يعرف بأزمة التحولات، وخذ الخبر 7 فصل «الطوفان» على سبيل المثال، فالأحداث تبدأ من دورية شرطة لفض نزاع بين الأهالي، وتنتهي بتكاتف الأهالي أمام طوفان يهدد حياة الجميع. وقد سمح هذا الأسلوب لكل حكاية بقدر من الحرية في رسم شخوصها وبيئتها، لذلك يمكن تصنيف الرواية بثلاث فئات: اللاشعور (وهو عالم البدو المادي)، والشعور (وهو الحياة النفسية الواعية لأبناء المدن)، ثم ما تحت الشعور (وهو المرحلة الخاصة بالتحولات في الريف). وكانت الأولوية للريف الذي احتل أكبر مساحة من الأحداث؛ ربما لأن هذا العمل يعبر عن مشكلة إيقاظ الوعي النائم: من سبات الماضي لمتطلبات الحاضر، ومن مجتمع العشيرة لمجتمع الأفراد، وأخيرا من إدارة الخيال الفني بعقلية مركزية لتحرير الفن من شروطه، وأفسح ذلك مجالا مدهشا لحوار طبيعي وشاعري بين الألوان الأساسية: الرمادي والأحمر للبادية ومجتمعات الداخل، والأخضر والأبيض للمهجر. وعليه اختص اللون الأخضر بقيمة رمزية تدل على الرغبة في الهجرة؛ على أساس أنه لون السهول المعشوشبة التي تمتد خلف الحدود، حيث «يوجد شيء يتمخض عن فجر جديد» كما ورد في الخبر رقم 10. وحيث أن الأرض كما ورد بالحرف الواحد «معشوشبة والغدران وفيرة»، قبل أن يضيف قائلا «هناك كل شيء أخضر». وربما من هذه الرؤية لعلاقة المنظور بالخيال الفني تستمد هذه المغامرة خصوصياتها.
إن هذه الجرأة على مفهوم الحدود الفنية (أصل النوع) لم تكن لعبة على مستوى الشكل والأسلوب فقط، ولكن جاءت معها جرأة على حدود المحتوى (الموضوع). فغير المشاهد التي تنتمي بمضمونها لمنطق العصر الحديدي، حين سخر الإنسان الحديد، وهذه استعارة ترادف تسخير الماكينات والصناعة للسيطرة على الطبيعة، حسب مفهوم الفن الملتزم، تجد إشارات لعصر المشاع، حين كان الإنسان يعتمد على الطبيعة وثرواتها الفطرية من حيوان ونبات، وهذا يفترض صراعا داخليا بين سياسة التنظيم وسياسة الفوضى المنظمة، أو بين مفهومنا عن الحرية المفروضة من الأعلى والحرية التي تنبع من حاجة الأفراد ورغباتهم، ولذلك حاول هذا العمل تذويب لغة الحدود المصطنعة بين الأنواع. فالهرية كانت مكانا عاما يلتقي فيه الأولاد والشباب والفنيون، دون أن يشغل أحد باله بمن أنشأها. وكما ورد في الخبر 10 يمكن أن تكون الهرية إشارة على حظ سيئ، أو مصدرا للخير والراحة والترفيه. ومع أنها كانت مكانا للخلوات الآثمة بين حسنة وحسان، لكنها أيضا كانت شاهدا على حب شتيوي الجارف. وبالنهاية أصبحت رمزا لتذويب الفروق بين الريف والمدينة.
عموما كان الشكل الفني في هذه الرواية استجابة لتبدل في فهمنا للمنظور، ولانتقالنا من فلسفة العقل الكلاسيكي الشمولي، بمشاهده المنبسطة والممدودة بلا نهاية، إلى فلسفة ما بعد الحداثة، التي تعتمد على التجزؤ والتخصيص، والتي أعادت تنظيم العلاقات بين الجزء والكل (وهو ما أصبح يعرف باسم ثورة الصناعات الصغرية). وهو ما تفسره الرواية في الخاتمة بشكل أوضح بقولها: إن هذا هو تغير نوعي يعبر عن التراكم غير المسبوق في كمية المعلومات.
صدرت رواية «أخبار آخر العشاق» عن دار شمس في القاهرة عام 2017

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى