اللغة العربية في أسطوريات الدّراما… التمثيل المجتزأ وطغيان الماضوية

للغة ظلال تتسع لاحتواء أنساق من التفكير القادرة على إنتاج بعض الأيديولوجيات التي تكمن في وعي الأمم، غير أن المشكلة تتخذ بعداً آخر، حين تستند بعض هذه التمثيلات إلى وعي زائف أو مغلوط، وبالتالي من الصعوبة بمكان تفكيكها، وبوجه خاص حين تتمكن في وعي بعض الأجيال التي تتشكل ذاكرتها في ضوء هذه التمثيلات.
وعلى الرغم من أن الدراما العربية في القرن السابق، قدمت نماذج مشرقة لربط الثقافة العربية، ولغتها بوعي حقيقي، كمن في متخيل الأجيال، والذاكرة العربية، غير أن من أهم القضايا التي يساء تقديمها، وتحدث شذوذا في وعي المجتمع المعاصر تجسيد ظاهرة الإرهاب في المتخيل الدرامي، هذه الدراما التي أمست نتاجا مشوها يتناوشها وعي معاصر زائف، إذ تشكل في هذا الزمن، من منطلق أن ممارسته في معالجة الإشكاليات المجتمعية والسياسية، تقترب من مفهوم الاستدعاء لا التأمل، أو التحليل، وهذا النهج يعدّ من أشد الأدوات التي أحدثت جنايات على الثقافة والإنسان والتاريخ واللغة والمستقبل، وتحديدا في إنتاجات الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، التي برزت مع ظاهرة التحولات الثقافية، وعصر الاتصالات، والقيم الافتراضية.
لقد كانت اللغة العربية حاضرة في الإنتاجات الدرامية في القرن السابق، ضمن تمثيل يتصل بتصوير وتوظيف اللغة العربية على أنها جمال وثقافة وعلم، إذ أحالت المشاهد العربي إلى قيمة التاريخ العربي ولغته، ومن ذلك على سبيل المثال مسلسل >الكتابة على لحم يحترق»، «الصعود إلى القمة»، وغيرهما من المسلسلات، علاوة على فيلمي العقاد الشهيرين «الرسالة» و«عمر المختار»، وغير ذلك من نتاجات الدراما العربية، التي اتسمت بوعي حضاري، حيث حضرت اللغة العربية بوصفها لغة العصور الزاهية للثقافة الإسلامية العربية، ولكنها في نتاجات الوعي الجديد، فقد ظهرت اللغة العربية الفصيحة، على سبيل المثال، على أنها لصيقة الإرهاب، أو بوصفها لغة الجماعات الإرهابية، وهذا بدا نموذجا يتكرر في العديد من الإنتاجات السينمائية والدرامية المعاصر، التي أنتجت وعياً لا مسؤولاً، فأدخلت الجماهير في ظاهرة ما يعرف بالأسطوريات، وهي كما وضحها ورسم معالمها رولان بارت في كتابه «أسطوريات الحياة اليومية»، وهنا أشير بوجه خاص إلى ما نعته بارت بمنطق الطبيعي، الذي أوجد شعورا بنفاذ الصبر تجاه الممارسة، حيث جعلت الصحافة والإعلام، – وبعبارة أخرى المؤسسة الثقافية – هذا الطبيعي واقعا مقبولا، بل ينبغي أن نتقبله بوصفه أمرا طبيعيا لا ينطوي على أي شذوذ، فأصبحت العربية لغة قطاع الطرق والمجرمين والإرهابيين والرجعيين، والقائمة تطول لتكريس واقعاً شاذاً، لا يعني سوى تمثيل مجتزأ وبسيط، بل هو تفصيل صغير في واقع الثقافة العربية، التي اختزلت إلى علامات وممارسات هامشية.
تكمن خطورة توظيف اللغة، وأعني توظيف استعمال اللغة العربية الفصحى في الدراما العربية، من منطلق ربطها على أنها ممثلة للغة الجماعات الإرهابية، وهذا يأتي رغبة في تصوير الواقع، ولكن هذا المسعى أحدث تخريبا في وعي المتعامل مع هذه اللغة، وهذا يكاد يشمل الناشئة من الأطفال الذين ربما يطلعون على هذه النتاجات الدرامية بطريقة أو بأخرى، فيكمن في وعيهم بأن هذه اللغة لغة موت، لغة سوداء، بائسة، مرعبة، فضلاً عن تكريس العربية بوصفها لغة تستند إلى موروث رجعي، ما يبدد تكوينها وصورتها الحضارية بوصفها لغة دين عرف بتسامحه، وبأنها لغة ثقافة، وعلم، تميزت بها الحضارة العربية الإسلامية لقرون خلت، لقد اشتغلت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية كثيرا على مفاهيم التسامح، وتجاوز الماضي، الخلافات، كي تنشأ واقعاً جديدا، لتكرس مفاهيم وحضارة إنسانية.
ليس هنالك من شك بأن هذه النظرة المثالية لا يكاد يتفق عليها الجميع، ولكن من المهم أن نعي أنها تشكل جزءا من ذواتنا التي لم يتبق لها الكثير، أو لم يتبق لنا من احترامنا الذاتي الثقافي والحضاري سوى قدر ضئيل جداً، ولعل المراجعة الدرامية لظاهرة الإرهاب، تسعى إلى بعض الملامح والظواهر التي لا تهدف إلى فهم الظاهرة، وتعريتها بمقدار ما ترغب في تجسديها، ولكن بطريقة سطحية لا تستند إلى منطق سليم، ولهذا يسارع العاملون في هذا المجال إلى ملاحظة قشور الظاهرة، وتجسيدها، والعمل على منظور يستجيب لتفسير السلطة، ومن ذلك معطى اللغة التي تتحول إلى معطى سيمولوجي، على اعتبار أنها، أي اللغة، منظومة تواصلية حضارية ثقافية تاريخية، هذا التهديد المسلكي من الممارسات الفنية والاجتماعية تجاه اللغة، أفرز خلاصات تتحدد بنسق من الأسطورية، التي تكمن في وعي الإنسان العربي، الذي بات محاصرا بلغته، التي بدت علامة على تقهقره حضارياً، بل الأنكى من ذلك، أنه بدأ يستشعر الخجل من ذاته، فضلاً عن خجله العرقي والثقافي والحضاري كونه ينتمي إلى منظومة لا فاعلة إنسانياً.
لا شك في أن ممارسات الدراما العربية منساقة لقيمة الجمهور، فهي تسعى لأن تخلق خطابا مضادا للإرهاب، ولكنها ضمن هذا المسعى – ربما بحسن نية- شرعت تعمل على تدمير متتاليات من الأجيال التي سوف تخجل من لغتها، وماضيها، وثقافتها لأنها ثقافة دموية. إن محاولة تحليل ظاهرة الإرهاب لا تنحصر بتشكيلة من العلامات والتفسيرات الظاهرية، فارتداء النقاب، والتحدث بالعربية، ومشاهد من التفجيرات، وطغيان اللون الأسود، وغير ذلك من الأدوات، هي في الحقيقة لا تقدم توصيفا فنيا لظاهرة الإرهاب، بمقدار ما تشوه أدوات حضارية، فالإرهاب نتاج منظومة سياسية واجتماعية وثقافية تتصل بتلاشي العدل والمساواة، مقابل انتشار الفساد والرشوة، علاوة على طغيان الخطابات الغوغائية والرجعية، كما النماذج الماضوية، وهذا يتضافر مع الفقر والبطالة وانعدام الحرية، مع غياب التمثيلات السياسية، والقيم الديمقراطية، فمعظم الشعوب العربية لم تعن برفاه شعوبها، ولا تقديرها، فهي شعوب لم تعرف معنى الحرية. لقد نتج الإرهاب نتيجة غياب عدد من العوامل، ولعل أهمها قيم التعليم القائم على التفكير، وتقدير الجمال، وتعليم التسامح، فضلاً عن تعلم النقد الحقيقي، والبحث العلمي، والأهم من ذلك التمييز بين النضال من أجل الدفاع عن حق مستلب، وبين الاستلاب لفكر مفلس وانهزامي، أو لنسق ماضوي لا يحتفي بقيم العصر الجديد.
ثمة مفارقة لا يمكن أن نتجاوزها، فالمخرج الذي قدم أجمل النماذج الحضارية للثقافة الإسلامية فنياً، قتل في تفجيرات عمان الإرهابية قبل سنوات، فمصطفى العقاد من خلال فيلم «الرسالة» الذي يعدّ علامة إنسانية خالدة في وعي الإنسان العربي، حيث استطاع هذا الفيلم أن يصوغ وعي أجيال في سبيل فهم الدعوة الإسلامية بطريقة تاريخية مبسطة، تنطوي على الكثير من القيم الجمالية، مع بيان البعد الإنساني، لا شك في أن اللغة العربية بدت حينها، أو في هذا الفيلم أجمل مما هي الآن، أو كما تتجلى في مسلسلات مفلسة، لقد ارتبطت اللغة العربية بدعوة الحق التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ لَم تكن في يوم ما لغة قتل وإرهاب، وتدمير، وهنا أستحضر أعمال كل من عباس أرناؤوط وصلاح أبو هنود وغيرهما، التي قدمت صورا للتاريخ العربي بتناقضاته، ولكن ضمن تعبيرات حضارية، تحترم عقل المشاهد، وحسه النقدي، حيث كان يخضع التاريخ لمنطق نقدي، لا منطقا توصيفيا ساذجا.
في الختام، ثمة في المعالجات الدرامية خطوط ينبغي أن تكتسب قيمتها من السياقات التي غالبا ما تتوارى في أساليب تتوخى تقديم الواقع فنياً، فالحدث التاريخي للإرهاب لم يكن سوى نتاج ممارسات وسياسات أحدثت تدميرا على البنى العقلية والنفسية للمواطن العربي، ومن ذلك غزو العراق الذي تسبب بخروج هذا الجنون، بالإضافة إلى التحيزات غير العادلة تجاه القضية الفلسطينية، زد على ذلك الأنساق والأنظمة القبلية والطائفية، وغيرها من مظاهر فساد العقل العربي وآفاته، وما هذه الأنساق سوى تابوهات أو محرمات تتجانفها الدراما العربية، فلا عجب ألا يتقدم العقل العربي، كونه لا يتلقى فناً أو تعليماً أو ثقافة حقيقية، هو فقط يعيش في أسطوريات يومية، تبدو طبيعية جدا، وعلينا أن نستسيغها فقط على الرغم من فسادها.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى