وضاح فارس عراقي في صلب الثقافة الحديثة

فاروق يوسف

وضاح فارس ظاهرة فنية متعددة الجوانب. غير أن الأهم في تلك الظاهرة أنها تستمد قوتها من مغامرة حياة عاشها فارس كما لو أنه مسافر بين قارتين. قارته الشخصية وقارة الآخرين. الرجل الذي صنع الكثير من الأحداث الفنية كان في الوقت نفسه حدثاً لافتاً في مدينة تشعر اليوم بالامتنان لعيونه الكثيرة التي رأتها في حالاتها وتجلياتها الكثيرة. بيروت التي عاشها وضاح هي ذلك الكوكب التجريبي الذي وضع أدوات مختبره في خدمة مزاج عربي كان في طريقه إلى العالمية. وضاح هو ابن ذلك الكوكب وأحد صانعي معجزاته.
في معرضه الحالي الذي يقيمه صالح بركات في قاعته البيروتية يحلق بنا العراقي الطائر في فضاءات بيروت (1960 – 1975). سنوات ما قبل الولوج في نفق الموت. كانت هناك حياة خيل إليها أنها ستمد يدها لتقطف زهرة القيامة. كان هناك شعر وموسيقى ومسرح ورسم ورقص وأزياء وفيروز وأنسي الحاج وسعيد عقل وعارف الريس وشارع الحمرا وعروبة وجريدة «النهار» وقبلها كلها الحرية. الكلمة والموقف والحالة والهدف والرسالة. لقد جسدت بيروت في تلك السنوات أمل العرب في حداثة تتماهى مع حياتهم ولا تقتلعهم.
إن وضاح وهو ابن الترف البغدادي واحد من مدوزني ايقاع تلك المرحلة التي شهدت وفرة في الحب والشغب والاختلاف والشغف والنزاهة في الفن كما العفة في الجمال. سجلات وضاح فارس هي واحدة من أعظم وثائق عصرنا العربي الذي وأده الظلاميون بمختلف توجهاتهم وأهدافهم العقائدية. فالزمن الذي تضعه صور فارس وتسجيلاته ومقتنياته الفنية أمام عيوننا هو زمن التنوير العربي الذي صارت استعادته اليوم أشبه بالمستحيل.
بمعرضه يُظهر وضاح حقيقته التي لم يتخل عنها ولم يشعره ثقلها بالإحباط. حامل الفانوس في البرية وعازف الناي في الليل ومرتل القداس في الغابة. وحيداً يمشي غير أنه لا يكف عن نشر فتنة جمال، كانت عيونه قد عجنت دموعها بضحكاته اللاهية. الرسام وناقد الفن والصحافي والمصمم ومعها وقبلها وبعدها صاحب مشاريع العرض الفني من خلال قاعاته في بيروت وباريس هو ابن بيروت في أقاصي دهشتها.
قبل سنوات حين التقيته في بيروت وكان بدأ في التحضير لمعرضه الحالي جلست صامتاً أمامه لكي أنصت إليه. ذلك لأنني كنت على يقين من أنني سأتعلم من خلاله ما فاتني من تاريخ الرسم في المنطقة.
وضاح هو معلم أجيال. تقنيته في ذلك أنه كان عبر السنوات حراً في انفتاحه على التيارات الفنية الجديدة. مغامرته الحقيقية تقع في تبنيه فنانين جدداً راهن على مستقبلهم، فكان أن ربح في رهانه الذي أقامه على أساس يجمع بين ما هو جمالي وما هو ثقافي على مستوى القبول بتبدل الذائقة الفنية والتماهي معها. كان ابن عصره دائماً. يومه يمر بخفة مكتظاً بالمشاريع غير المؤجلة.
ما كان يسعد فارس دائماً هو أن ينفتح يومه على جديد، سواء كان ذلك الجديد شخصاً أو حدثاً أو فكرة يكون لها وقع الالهام في حياته. لقد أنشأ وضاح صداقات، تكشف عن شخصيته المركبة التي جمعت الفنون كلها في دائرة حوار تفاعلي كان هو الأساس الذي نهض عليه عالمه الساحر، المكتظ بالأسرار. فمَن يلتقيه لا يملك فرصة للعودة إلى الماضي ذلك لأن وضاح لم يشغل نفسه يوماً بالحنين إلى ذلك الماضي، فهو يتذكر ليفهم ما ينبغي عليه أن يقوم به الآن. من خلال معرضه يعيد بيروت مدينته، مدينة الآخرين الذين مضى أغلبهم إلى بقعة مجهولة إلى العالم. بيروت المدينة العالمية هي هاجسه الذي لم يفارقه. فهو ابن تلك المدينة التي لم تكن تقع في زقاق بل تقف على شرفة واسعة تطل برشاقة مخيلتها على البحر. بحر العالم.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى