«لوحة دوريان غراي» من السرد إلى المشهدية المسرحية

كاتيا الطويل

تُعرض حاليًّا على خشبة مسرح أرتيستيك تياتر الباريسيّ (artistic théâtre) رائعة الأديب الإيرلنديّ أوسكار وايلد (1854-1900) وعنوانها «لوحة دوريان غراي» إخراج الممثّل والمخرج الفرنسيّ توماس لو دواريك، وهي الرواية الوحيدة التي كتبها وايلد طيلة حياته، بينما اقتصرت أعماله الأخرى بمعظمها على المسرحيّات والقصائد. وتُعتبر رواية «لوحة دوريان غراي» رائعة من روائع الأدب العالميّ، فهي رواية فلسفيّة ساخرة تحتوي على كلام لاذع واقعيّ يجرّد مجتمع الحقبة الذهبيّة في أوروبّا (La belle époque) ويُظهر حنكة أهله وانصرافهم إلى الملذّات والنزوات وتمجيدهم للجمال والشباب والجسد. وتنتمي هذه الرواية إلى الروايات الخالدة فهي تطلق على لسان شخصيّاتها حقائق إنسانيّة ما زالت صحيحة حتّى يومنا هذا. فالنظريّات في الحبّ والفنّ والجمال والمرأة لا تزال صائبةً وثاقبة وتنطبق على مختلف المجتمعات البشريّة باختلاف عاداتها وطبائع أهلها.
وإلى ذلك، تعالج الرواية مسألة طرقها الأدب في أساطيره وقصصه العتيقة، مسألة بيع الإنسان روحه مقابل السعادة الدنيويّة والشباب والخلود. وقد بقي هذا الموضوع موجوداً في عدد كبير من الآثار الأدبيّة التي سلّطت الضوء على أمنية الإنسان الأولى والأخيرة: الخلود. وتستعيد هذه المسرحيّة رواية أوسكار وايلد بحرفيّة وإتقان موظّفة العوامل الضوئيّة والموسيقيّة لتأطير النصّ وتحديد أبرز محطّات تطوّره. فتضافرت العتمة مع الموسيقى لفصل المشاهد وإظهار عامل مرور السنوات على الشخصيّات والأحداث.

مستنقع أرواح ضائعة
تقوم المسرحيّة على ثلاث شخصيّات محوريّة تجسّد كلّ منها طرفًا من المجتمع، وتتعارض هذه الشخصيّات في ما بينها وتقدّم كلّ منها رؤياها المختلفة للمجتمع. وعلى اختلاف طبائع هذه الشخصيّات لا بدّ من الإشارة إلى أنّها تجتمع جميعها على رأيها السلبيّ والمجحف بحقّ بالمرأة. وهذه النظرة الفوقيّة إلى المرأة في النصّ تجسّد نظرة أوسكار وايلد العامّة إليها والتي يجدها القارئ في مختلف أعماله الأخرى.
ويقع المتفرّج على المسرحيّة أوّلاً على شخصيّة الفنّان المهمّش بازيل. فبازيل هو الرسّام الحسّاس والشفّاف، رمز الفنّان الإنسانيّ المتعلّق بالطيبة والحبّ والأخلاق السامية. بازيل أصل الخلق ورمز البداية والشخصيّة الأولى التي يلتقيها المتفرّج ويتعاطف معها لشغفها وإبداعها. وبازيل هو كذلك صوت الضمير والقيم الاجتماعيّة التي يتناساها البطل دوريان غراي والتي تبقى حاضرة في ذهنه على شكل طرقات رقيقة يتحاشاها ويهملها وينتهي بقتلها. ويبدو هذا الفنّان المهمّش بطيبته المتعارضة مع عادات المجتمع، رازحاً تحت نير الضعف والانكسار منذ البداية، فهو العضو الهشّ في المجتمع، الفرد الذي لا يؤخذ برأيه أو بنظرته الأخلاقيّة للحياة.
وبازيل الفنّان هو رمز الحبّ المحكوم عليه بالموت منذ البداية. هو فنّان حنون شفّاف شغوف بفنّه وبالإنسان، إنّما معذّب ومقهور ومضطهد. فعلى رغم براعته ورهافته الفنّية يبقى بازيل شخصيّة هامشيّة في حياة دوريان غراي الذي يحكم عليه بالموت وبالإهمال منذ البداية. حبّ بازيل للوحاته مصدر هزء وسخرية. تعلّقه بدوريان غراي يسبّب له الوجع والحزن. تمسّكه بحبّه للإنسان والقيم الراقية يودي به إلى الموت والتلاشي. وكأنّ انهياره المتدرّج على مدار النصّ هو مرآة لانهيار القيم وتحطّم الحبّ بجميع أوجهه في مجتمع ساخر قاسٍ فذّ يتهافت على ملذّاته الأنيقة الأرستقراطيّة. وكأنّ موت الفنّان هو الضربة القاضية لمجتمع يؤلّه الجمال وعمر الشباب ويعترف بقسوة الحياة ويمعن فيها. وكأنّ الفنّان بخسارته مكانته في مجتمع المتعة (hédonisme) بات عاجزاً عن مجاراة الواقع وحكم على الإنسانيّة كلّها بالمسير نحو البرودة والصرامة والأوتوماتيكيّة الحسّيّة.
أمّا الشخصيّة الرئيسة الثانية والأكثر قوّة وحضورًا فهي شخصيّة اللورد هنري التي جعلها كثيرون من النقّاد شخصيّة الكاتب الإيرلنديّ ذاته ولسان أفكاره الخاصّة. وشخصيّة اللورد هنري هي شخصيّة محورية تؤثر في البطل وتهيمن على تفكيره وتصرّفاته ورؤيته للأمور. هي شخصيّة تمثّل المجتمع بسخريته وحنكته وبراغماتيّته اللاذعة وتتعارض تمام التعارض مع شخصيّة بازيل الفنّان. فبينما الفنّان رقيق وشفّاف، يذكّر اللورد هنري بالماركيزة دو ميرتوي من «علاقات خطيرة»، امرأة لعوب تسيطر على المحيطين بها وتتلاعب بهم لتبلغ عبرهم مآربها.
إنّ نظريّات اللورد هنري في الحبّ والجمال والشباب إنّما هي التي تشكّل محرّك الرواية والدافع وراء انغماس دوريان غراي في حياة اللهو والعبث والتلاعب بالناس وبمشاعرهم. هذه النظريّات بالذات هي التي تحرّض دوريان غراي على تمنّي أمنيته بأن يتحوّل رجلاً خالد الشباب، لا يتأثّر بعوامل الزمن والعمر بل يبقى أبديّ الجمال والفتوّة.
وتصدر شخصيّة اللورد هنري أحكامها الفظّة على المجتمع والمرأة والحبّ. حتّى رجال الدين لا يسلمون من سلاطة لسانه وسخريته، وتُعدّ نظرته النقديّة اللاذعة للمجتمع إحدى أبرز الأمور التي سبّبت الكثير من المتاعب للمؤلّف أوسكار وايلد.
وتبقى الشخصيّة الثالثة هي شخصيّة دوريان غراي. الشاب الأرستقراطيّ الوسيم الذي يتنازعه تيّاران: تيّار الطيبة الإنسانيّة الذي يمثّله الفنّان بازيل، وتيّار الملذّات والمتع الذي يرمز إليه اللورد هنري بجمله الرنّانة الصادمة. ويبدو منذ البداية أنّ دوريان غراي يميل إلى التيّار الثاني الذي تمكّن اللورد هنري من تقديمه بطريقة جذّابة مقنعة. فاتّخذ دوريان قراره وانصرف إلى الاستمتاع بحياته وشبابه وجماله من دون اكتراث أو وعي، ليكتشف في نهاية الأمر أنّه دفع روحه ثمن هذه السعادة الحسّيّة.
وجسّد هذه الشخصيّات الثلاث ثلاثة ممثّلين بارعين تمكّنوا من تأدية أدوارهم بحنكة وتقنيّة عالية. فأدّى الممثّل أرنو دونيس دور دوريان الشاب متوتّر ودائم الضياع، ولعب المخرج توماس لو دواريك دور اللورد هنري، لورد مغرور ومتهكّم ويتمتّع بحسّ فكاهيّ حادّ ولاذع، أمّا الفنّان بازيل الممتلئ الجسم اللطيف الوجه فقد أدّى فابريس سكوت دوره بمصداقيّة ولطف يليقان بشخصه.
«لا شيء في هذه الدنيا سوى عمر الشباب». إنّها حكمة يتلفّظ بها اللورد هنري بهدوء وثقة وحنكة صادمة. هي حكمة تناقلها الفنّ منذ أجيال. فالشباب هو عمر الحياة، عمر الجمال والحبّ والأخطاء والملذّات والنزوات والزلاّت ومن بعده تبدأ الحياة بالأفول والسقوط في فخّ الشيخوخة الذي لا مفرّ منه.
منذ ملحمة جلجامش والإنسان يبحث بلا ملل عن ترياق الشباب والخلود. أبطال الميثولوجيا الإغريقيّة حاولوا جميعهم نيل جرعة الخلود أو سرقتها من مأدبة الآلهة. منذ قرون ورحلة البحث لم تتوقّف. فاوست باع روحه ليشتري الشباب. داليدا ذاتها غنّت عمر العشرين. إنّما لا مفرّ. كلّها حيل لا تنجح، تُبطئ الموت ولا تمنعه.
رواية «لوحة دوريان غراي» رواية عالم يركض خلف الجمال والشباب والخلود. رواية حبّ محكوم عليه بالإعدام بمختلف وجوهه أكان حبًّا عذريًّا أو زواجًا أو حبّ فنّانٍ للوحته. هي رواية مصير لا يرحم ولا يتراجع بل يتلذّذ بمعاناة الإنسان الذي يتوهّم أنّه انتصر بينما هو يغمس نفسه أكثر في وحول العذاب والموت.
ومن بعد عدّة مسرحيّات وأفلام جسّدت رواية وايلد، أعادت هذه المسرحيّة نصّ وايلد إلى خشبة المسرح الفرنسيّ المعاصر، فهي تعرض أفكار أوسكار وايلد مجدّداً، وذلك بجماليّة وحرفيّة موظّفة مؤثّرات صوتيّة وتمثيليّة متماسكة. فمثلاً بدأت المسرحيّة بطرقات قويّة وانتهت بها وكأنّها طرقات القدر الآتي لا محالة. وقد سُمعت هذه الطرقات في أكثر أوقات المسرحيّة خطورة ودراميّة. كما أنّ توزيع الأدوار كان متميّزاً وصائباً، وأدى كل ممثّل دوره بدقة وبما يليق بالشخصيّة من حرفيّة. ولا بدّ كذلك من التوقّف عند الآداء المتميّز الذي قامت به الممثّلة كارولين ديفيم بحضورها وصوتها وتجسيدها الجميل لسيبيل الممثّلة المسكينة التي تنتحر بسبب قسوة دوريان واللورد هنري.
وجوه وأدوار وحِكَم ذكّرت برواية «لوحة دوريان غراي»، من أجمل ما تركه المفكّر والأديب الإيرلنديّ أوسكار وايلد وأكثره ثراء وتعمّقاً في المجتمع وفي النفس البشريّة التائهة التائقة أبداً إلى الجمال والشباب والخلود.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى