السويدي ستيغ داغرمان يصوّر زيف العصر وبؤسه

أنطوان جوكي

قليلون هم الأشخاص في عالمنا العربي، أو حتى في أوروبا، الذين يعرفون الكاتب السويدي الملعون ستيغ داغرمان (1923 – 1954) الذي وضع حداً لحياته في سن الحادية والثلاثين، ولكن ليس قبل أن يفرض نفسه في الساحة الأدبية السويدية كواحد من ألمع كتّاب جيله بفضل رواياتٍ أربع: «الأفعى» (1945)، «جزيرة المحكومين بالسجن» (1946)، «الفتى المحترِق» (1948) و «متاعب عرس» (1949). روايات صاعقة بسوداويتها ونثرها المقلِق لم يكتفِ داغرمان بها خلال حياته القصيرة، بل وضع أيضاً نصوصاً شعرية ومسرحية مهمة، إضافةً إلى مجموعات قصصية تعكس رؤيته السلبية للعالم، ويتنقل فيها بين سردٍ ساخر وسردٍ هجائي، وبين واقعٍ وخرافة.
والخرافة، أو بالأحرى الخارق هو الذي يطغى على مجموعته «عربات القطار الحمراء» التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار «موريس نادو». وحين نتآلف مع عالم داغرمان المعذَّب والقلِق، لا نعجب أن يفضي إلى الخارق، أي إلى مكانٍ تأخذ الأشياء فيه فجأةً طابعاً غير متوقّع وكاشِف، كما في القصة التي تمنح عنوانها للمجموعة، أو إلى أجواء مثيرة للرعب، كما في قصة «رجل ميليسيا»، أو إلى مغامرات غريبة وخطيرة، كما في قصة «حين تحلّ عتمةٌ مطبقة»، أو إلى الخرافة العلمية الطريفة، كما في قصة «مثل الكلب».
ولكن في بعض قصص هذه المجموعة، يتخلّى داغرمان عن الخارق لإطلاق العنان لحسّه الدعابي الأسود، كما في قصة «اليوم الثامن»، أو لسخريته القارصة (من المجتمع)، كما في قصّتَي «المحاكمة» و «الرجل الذي لم يكن يريد أن يبكي»، أو يلجأ إلى التحليل السيكولوجي العميق والبارد، كما في قصة «المحكوم بالإعدام».
وسواء قاربت لعنةً قديمة، أو تيهاً في مدينة خلال عاصفة ثلجية، أو لحظات شكٍّ وقلق، تضع هذه القصص، التي تقع في مناخها عند تقاطُع نصوص موباسان وأورويل وكافكا، ديكورَ عالمٍ إسكندينافي قاسٍ حيث لا نهاية لفصل الشتاء ولا يبلغ نور الشمس الناس إلا نادراً. عالمٌ هو غالباً عبارة عن مسرح عبثٍ تحيا داخله شخصيات غريبة فاقدة توازنها، أو فقط ملعونة. وحين تكون عاديّة، يكون المحيط الذي تعيش فيه منحرفاً ومجنوناً. وفي كل واحدة من هذه القصص، ينجح داغرمان في تفجير قناعاتنا والأفكار المعدّة سلفاً عبر تصويره المُحكَم والدقيق لحالات يأسٍ واقعية أو ذهانية هلسية، وفياً في ذلك إلى الفكرة الرئيسية المسيّرة في كل أعماله، ومفادها أن مصير كل شيء في عالمنا هو الضياع أو الدمار أو التفاهة، ولا أحد قادر على إصلاح ذلك.
في «عربات القطار الحمراء»، التي تستحضر بنثرها ومناخها أسلوب التعبيرية الألمانية، نتابع انحراف شاب داخل هوسٍ أحادي لدى ملاحظته قطاراً يعبر كل ليلة تحت نافذة غرفته وتعلو عرباته رسومٌ حمراء مخيفة. ولأن هذه الرؤية ستوقظ الشرّ والجنون الكامن داخله، «هو الذي لطالما وجد نفسه على السندان، سيرغب فجأةً في لعب دور المطرقة». ولا شك في أن هذه القصة تشكّل استعارة للشرّ المطلق الذي جسّدته النازية وانتشر في كامل أوروبا عبر قطار الحداثة. قصّة كتبها داغرمان عام 1945، لكنها لم تفقد شيئاً من راهنيتها على ضوء وضع عالمنا اليوم، مثلها مثل قصة «الرجل الذي لم يكن يريد أن يبكي» (1947)، التي تشكّل في مضمونها هجاءً قارصاً لمجتمعٍ يعيش وينفعل على وقع أخبار نجومه السينمائية. فماذا لو نظر إلى حقبتنا الراهنة بطلها الذي يجد نفسه مهدداً بالطرد من عمله لأنه لم يذرف دمعة واحدة على وفاة ممثّلة سينمائية شهيرة، بخلاف جميع زملائه، وينتهي به الأمر باكياً على واحدٍ منهم بعد اطّلاعه على محنة حياته؟
أما قصة «المحكوم بالإعدام» (1946) التي نعتبرها الأجمل داخل المجموعة، فتشرّح ردود فعل رجلٍ بريء تنقذه من حبل المشنقة وعكة الجلاد الصحّية أثناء تنفيذ الحكم. لكن بدلاً من الاستمتاع بالحياة بعدما نجا بجلده، نراه يبقى سجين تقنيات العزلة الذهنية التي طوّرها في السجن أثناء انتظار إعدامه، وأبرزها عدم السماح لنفسه إلا بتأملات قصيرة، وفي أشياء ملموسة وآنية فقط.
باختصار، قصصٌ شديدة الحداثة سواء بمواضيعها أو بنثرها العنيف والمشحون برمزية عالية أحياناً، والمعبِّر عن ألمٍ أو عذاب غالباً. قصصٌ تفتننا وفي الوقت ذاته توتّرنا إلى أبعد حد بذلك الحضور المستحوِذ للقلق الذي ينزّ من كل واحدة منها، وبتلك النزعة العصابية على محاصرة هذا القلق وتشريح أسبابه ونتائجه بطريقة شبه مازوخيّة. قصيرة، لكن لامعة وواخزة، نتعقّب فيها، بكلمات قاطعة، زيف الكائنات والحالات الموصوفة، وتشكّل بالتالي كمّاً من الأبواب التي يمكن عبرها ولوج عالم داغرمان الأدبي الذي يتطلّب فهمه وقفة سريعة عند مسيرته الخاطفة.
مثل بطل روايته «الفتى المحترق»، اكتوى داغرمان إلى حد التكلّس من خيانة أمّه له وتخلّيها عنه وهو صغير، ثم من استنتاجه بعد ذلك استحالة تحقيق توقه اليوتوبي إلى العدالة. وعلى رغم محاولاته تعزيم صورة أمه داخل رواياته، لكن شبحها المفترس بقي متسلّطاً عليه ككتلة باردة وكائنٍ وحشي فرّغه كلياً من رغباته وطاقته الحيوية. ولن تلبث تصدّعات شخصيته أن تتفاقم بعد فشله في تغيير مجتمعه عبر ريّه بأحلامه الإنسانوية. فبدلاً من متابعة نضالها من أجل إحلال العدالة الاجتماعية، رأى طبقة العمّال التي كان يراهن عليها وينشط في صفوفها ونقاباتها تتحوّل إلى «خرفان مسمّنة» بفعل الاستهلاك والتأمين الاجتماعي البائس الذي حصلت عليه.
ولذلك أوقف الكتابة الأدبية انطلاقاً من عام 1950 للغوص في تشنّجات العالم، مكرّساً وقته لكتابة مئات المقالات في الصحف والمجلات من أجل فضح الارتهانات الحديثة والتأمّل في شرّ العقيدة النازية التي كانت أصداؤها لا تزال تتردد داخل المجتمع السويدي، وتحليل نهاية الأدب البروليتاري. مقالات تكشف ضراوة قلمه وبصيرته، وتدعو قارئها بصوتٍ صارخٍ إلى تأمّل الخوف العظيم الذي يوحي به قدر البشرية.
لكن هذا النشاط الصحافي النبيل لن يحول دون اتّساع الهوة تحت قدمَيّه التي لن يلبث أن يلمس قعرها إثر فشل زواجه وتخبّطه في حالة اكتئابٍ عميق يصفه على النحو الآتي: «للاكتئاب سبعة أدراج، في الدرج السابع ثمة سكين وشفرة وسمّ ومياه عميقة وسقوط مدوي. سأنتهي عبداً لجميع أدوات الموت هذه التي تتبعني مثل كلاب، أم أنا الذي أتبعها مثل كلب. يبدو أني فهمتُ أن الانتحار هو الدليل الوحيد على حرية الإنسان».
وفعلاً، ذلك الذي كتب: «يستحيل تلبية حاجتنا إلى المواساة»، سيرى في الموت المواساة الوحيدة المتوافرة، فيعانقه عام 1954 لاقتناعه أيضاً بأن «الانتحار الناجح يتفوّق على أجمل صفحة من صفحات الأدب». ومع احترامنا وتفهّمنا دوافع داغرمان إلى وضع حدٍّ لحياته، نبقى من جهتنا مقتنعين بأن ديمومته الأكيدة لا تدين لانتحاره بمقدار ما تدين لأعماله الأدبية الفذّة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى