شريف رزق يصل مبكراً إلى «مجرة النهايات»

محمود قرني

«مجرة النهايات» ليس عنواناً لمتاهة فيثاغورية، بل هو لمجموعة شعرية دالة، تتوسط عقد منجز الشاعر والناقد المصري شريف رزق، ذلك الزاهد المتعفف الذي رحل أخيراً إثر أزمة صحية حادة، انتهت برحيله عن عمر يناهز الثانية والخمسين. فلم يكن لتلك العرفانية التي انطوت عليها شعرية شريف رزق، في دواوينه الخمسة التي أصدرها، إلا أن تنبو عن ذلك الاغتراب الجارح الذي صار مضجعاً أبدياً. وسيكون لافتاً أن يقدم الشاعر تلك المجموعة بمجتزأ من «حافظ الشيرازي» يمثل الكثير من مآلاته: وارتضيتُ عزلتي/ كما ارتضاها الفرجار/ يدور حول محيطه، ولكن القدر جعلني، في النهاية/ كالنقطة في وسط الدائرة». ولعل تلك اللعنة الدائرية التي طوقت خطي الشاعر ضمن طريق طويل من الكدح في العيش كما في الثقافة، جعلت من رزق هذا الفرجار الشيرازي الذي يدور حول محيطٍ لعينٍ وقاسٍ لكنه في نهاية الدائرة، إذا كانت ثمة نهاية لأي دائرة، أن يجد نفسه قد تحول إلى مركز من مراكزها الظاهرة كشهاب ملَّ طول المقام. أقول ذلك وقد أصبح شريف رزق أيقونة بين شعراء جيل الثمانينات في مصر، ليس فقط عبر الدواوين الخمسة التي أصدرها وآخرها ديوانه «حيوات مفقودة»، بل لأنه أحد أصحاب الاقتراحات الشعرية المتجددة. حقق شريف رزق الكثير من هذه الانتقالات والاقتراحات داخل نصه بداية من ديوانه الأول «عزلة الأنقاض» 1994، مروراً بـ «لا تطفئ العتمة» 1996، «مجرة النهايات» 1999، «الجثة الأولى» 2001، وأخيراً «حيوات مفقودة»، وهو الديوان الذي أثار العديد من التساؤلات حول ما يمكن وصفه بالردة إلى البلاغة الشعرية بمضامينها اللغوية المركبة، وهي بلاغة تستنهض، ليس فقط العالم الشعري بمفرداته كافة، بل كذلك شكل الصفحة ذاتها وتتعامل معها باعتبارها فضاء مضافاً إلى شعرية النص. لذلك سنجد أن صفحات الديوان مملوءة بالمربعات والمستطيلات والكثير من الأشكال الهندسية التي تتحكم، في شكل ما، في توزيع السطور والتقسيمات الداخلية، وربما تحكمت في ذلك درجات متفاوتة من الكثافة اللغوية التي دفعته إلى الاستفادة بأكبر قدر ممكن من الطاقات السردية العالية للشكل النثري عبر حشد الكثير من التفاصيل وعبر ما يمكن أن نسميه بالأسطورة الشخصية. إلى جانب ذلك فإن المنجز الأهم، لشريف رزق، هو مجموعة أبحاثه ودراساته عن قصيدة النثر التي ضمنها عدداً من كتبه المؤثرة ومنها «قصيدة النثر» 2010، «شعر النثر العربي في القرن العشرين» 2010، «آفاق الشعرية العربية الجديدة في قصيدة النثر» 2011.
وربما أرادت كتب رزق النقدية أن تكون سجلاً أميناً يقاوم واقعاً يضمن المزيد من المطاردة لكل تجديد، لذلك تبدو صرخات رزق وغيره تأكيداً على عُصَابية تلك الحروب المجانية التي خاضتها القوى المحافظة ضد فكرة التجديد أياً كان مضمون أطروحاتها وأياً كانوا الأشخاص القائمين عليها. لكن تلك الحروب المجانية لم تصرف شريف رزق عن التوقف بموضوعية أمام مشكلات النص الذي يدافع عنه وينتمي إليه. من هنا انتقد الكثير من مظاهره في كتابه المهم «قصيدة النثر» واستطاع أن يكشف عن معضلات حقيقية عدة، بينها التقسيم السيمتري لأفكار مثل المشهدية والراهنية، والعزلة النفسية التي تبرر المزيد من الاستغلاق.
وضمن الإشكاليات التي استوقفت شريف رزق كانت فكرة تماهي الأصوات الشعرية في صوت واحد، الاستسلام للدفق التقريري والمباشر، تجاوز قصيدة النثر إلى نثر القصيدة، والتخلي عن مبدأ التكثيف. وقدم لنا رزق –في جرأة لا يتوفر عليها نقاد أيامِنا- نماذج شعرية دالة على كل معضلة، واختتم مخاوفه بالتقرير بأن طغيان النزعة اليومية والجزئية في قصيدة النثر العربية لم يصاحبه في الغالب وعي بمقتضيات هذا النوع الشعري في الشعرية الأوروبية، لا سيما أن موجة التأثير والتأثر فقدت الكثير من بريقها بسببٍ من فقدان الوعي بالفلسفة الكامنة خلف فكرتي التكثيف والراهنية كنسقين ظلا يعملان ضد العرفانية والذاتية واللغة التاريخية. ولم يسأل أحد منا نفسه: هل كل هذه المواصفات المطروحة والخلافية كانت صالحة دائماً لإنتاج الشعر؟ ناهيك عن قدرتها على إنتاج شعرية جديدة فاحتقار الأيديولوجيا على سبيل المثال، أخرج من أدبياتنا، تاريخياً وأخلاقياً، هؤلاء الذين ساعدونا على استرجاع صوتنا في الشؤون العامة والخاصة ومهدوا لتوسيع حدود طبقات اجتماعية مسحوقة نحن على رأسها، وهو الأمر الذي أعطى قيمة رفيعة لمعنى الالتزام. وقد أولى شريف رزق اهتماماً كبيراً لموقف الرواد من قصيدة النثر سواء برفضها أو بتبني مقولات مناهضة لمقولاتها، حتى هؤلاء الذين انبنى جزء من شيوعهم عليها. من هنا وصف رزق الخطاب الريادي بأنه يضج برسوليته وأنه يرفض خطاب المستقبل جملة وتفصيلاً، وهو موقف لا يختلف مع أصوليته ويبدو شديد الاتساق معها.
يتبقى القول إنني لم أكن متفقاً تماماً مع تحليل شريف رزق لقصيدة النثر، فقد قرأها، في بعض الحالات، بالأدوات الإنشائية نفسها. وربما كانت مثل هذه التعميمات وراء المبالغات التي أكدتها القصيدة واندفعت نحوها في عشوائية وبروح قطيعية لم تفرق بين العام والخاص. لذلك ما زلنا نعول على أن تظل أطروحات شريف رزق دافعاً إلى المزيد من إجلاء المشهد الشعري مصرياً وعربياً. فكما ظل شريف رزق واحداً من ألمع كتاب النص الجديد فهو أيضاً من ألمع قارئيه ونقاده. وسيظل ما قدمه علامة أكيدة على إخلاصه لمعتقده الجمالي الذي ما زال مغترباً بين الناس.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى