يبلغ من العمر 104 سنوات ويعكف على تدوين مذكراته: الروائي السلوفيني بوريس باهور

سعيد خطيبي

بوريس باهور قضى 80 عاماً وهو يكتب عن مدينته الممزّقة «ترييستي» (شمال إيطاليا)، ولغاية اليوم، لم يتخلّ عنها، رغم تقدّمه في العمر، مازال يصرّ على التّسكع فيها، ومشاهدتها وهي تتغيّر. «أخرج للمشي في الصّباح، وبعد الغداء. ثم أرجع للبيت للكتابة» يخبرنا. بعد أربع عشرة رواية، آخرها «سوق أوبردان» (2006)، والكتب النّقدية والبحثية، تفرّغ بوريس باهور )1913) أخيراً لمشروعه الختامي. «أكتب حالياً ما يُشبه المذكّرات، أو لنسميه كرّاسة حميمة. كلّ يوم أكتب من خمسة أسطر إلى عشرة أسطر. وهذا كافٍ. يهمّني أن أدّون أهمّ ما حصل، وليس كلّ ما حصل».
هو الرّوائي الأكبر سنّاً، في العالم، عاصر الحربين الكونيتين، وشاهد تحوّلات أوروبا وما حولها، في القرن العشرين وبداية القرن الحالي. وُلد نمساوياً (أيام الأمبراطورية النّمساوية المجرية، أو ما يُطلق عليها المملكة الهايسبورغية)، ثم صار عام 1918 إيطالياً، رغماً عنه، تحت حكم موسوليني، وقبل ستّة وعشرين عاماً استعاد هويّته الأصلية: السّلوفينية.
في مكتبته الشّخصية، في الضّاحية الشّمالية من «ترييستي»، أوّل ما يُصادف الزّائر هو شهادة فخرية، كُتب عليها: «بوريس باهور، سفير الثّقافة السّلوفينية». يقول بشأنها: «لست أدري إن كنت أستحق اللقب. لكن الأكيد أن ثورتي الأساسية هي ثورة هوياتية. ثورتي الأولى كانت من أجل استعادة لغتي الأمّ، واستعادة حقّي في التّعبير بها». في عمر السّابعة، شاهد بوريس الفاشيين، وهم يحرقون «بيت الثّقافة السّلوفينية»، في ترييستي، كان عبارة عن فيلا من ستّة طوابق، تصدر منشورات وجريدة بالسّلوفينية، كانت تلك اللّحظة تراجيدية، ومثيرة في حياة الرّجل، تبعها إصدار مرسوم يمنع استخدام السلوفينية في المدينة (مع تغيير أسماء السّلوفيين إلى أسماء إيطالية)، ستجعله ـ لاحقاً ـ خصماً للفاشيين، الذين سيُواجههم، بالسّلاح، في الحرب العالمية الثّانية، ومدافعاً ـ لا يُهادن ـ عن لغته الأمّ.
سألته عن تعريفه للغة الأمّ. أجاب: «هي اللغة التي تحدّث بها أبي وأمّي حين تحابا وفكّرا في إنجابي»، هو تعريف يتقاطع مع المثل الشّعبي المتداول: «أنا سلوفيني، هكذا قالت أمي».
تاريخياً، مدينة ترييستي كانت محلّ نزاع، بين الإيطاليين والسّلوفينيين. الإيطاليون يرون فيها امتداداً جغرافياً لأرضهم، والسّلوفينيون يرون فيها قطعة منهم، بحكم لغة سكّانها. في ترييستي حالياً، يمكن للزّائر أن يتحدّث، دون مشكلة، باللغتين الإيطالية أو السّلوفينية، كما إن اللافتات، في الشّوارع والسّاحات العامّة، تكتب أيضاً باللغتين. من ترييستي، خرج «الحزب الوطني الفاشي»(1921)، الذي سيحكم إيطاليا لأكثر من عشرين عاماً، ومن هناك خرج أهمّ الكتّاب السّلوفينيين، من بينهم فلاديمير بارتول (1903-1967)، صديق بوريس باهور، صاحب رواية «آلموت» (1938). «كان فلاديمير بارتول ينوي إهداء رواية آلموت لموسوليني، سخرية منه، ومن ديكتاتوريته. لكننا أقنعناه بالتّخلي عن الفكرة. لو كتب اسم موسوليني لما صارت الرّواية نفسها من الأكثر مبيعاً، في العالم، لحدّ السّاعة» يحدّثنا بوريس باهور. ترييستي، المطلّة على واجهة البحر الأدرياتيكي، نقطة الفصل بين إيطاليا وسلوفينيا، مدينة حرب وأدب، مرّ عليها كتّاب مهمّون كثر، منهم ريلكا، الذي شيّدت تمثالاً له، وجيمس جويس، الذي استلهم من أناسها جزءًا من رواية «عوليس»، وآخرون.
الأدب السّلوفيني، غير معروف لدى القارئ العربي، تظلّ رواية «آلموت»، التي تُرجمت، أكثر من مرّة، هي الأشهر، من البحرين إلى المغرب، رغم أن بوريس باهور هو أهمّ كاتب سلوفيني، أعماله تعتبر من كلاسيكيات الرّواية العالمية، مع ذلك، لم يترجم بعد للعربية. كتابات بوريس ترتبط – بالأساس – بالسّيرة الذّاتية للرّجل، وتعود كثيراً لسنوات الحرب العالمية الثّانية، وسجنه في محتشدات النّازية. روايته الأهمّ «نيكروبول» أو «مدينة الموتى» (1967)، جعلت منه علامة فارقة في الرّواية، تُرجمت إلى أكثر من عشرين لغة، والشّيء نفسه مع رواياته الأخرى: «في المتاهة» (1984)، «أوضاع أفقية» (1997) و»مهد العالم» (1999) وغيرها، وروايته الأولى تعود إلى 1948، بعنوان: «بيتي في ترييستي»، تتحدّث عن سجنه في محتشد «ناتزويلر – ستروتوف»، في الألزاس، الذي أُعدم فيه حوالي خمسمئة مُعتقل. «أنا معروف أكثر كروائي، رغم أنني بدأت من كتابة القصّة القصيرة، في المدرسة. والبداية الحقيقية كانت مع نهاية الحرب العالمية الثّانية، كنت أكتب متأثراً بديستويفسكي» يقول بوريس. في تلك الفترة، كان باهور يكتب ويقرأ بالسّلوفينية، في الخفاء، «يُداوي نفسه بالكتابة» كما يقول، لا يُجاهر بلغته الأمّ في إيطاليا، ويُرسل نصوصه إلى مجلات، كانت تصدر في ليوبليانا.
لا توجد حدود بين السّيرة الذّاتية والمتخيّل، في تجربة بوريس باهور، ويعبّر عنها قائلا: «أعتبر نفسي كرونيكر (مؤرخ وقائع)، شاهداً على ما جرى وما يجري، أكتب وفاءً للذّين رحلوا والذين ماتوا دون أن نسمع صوتاً لهم».
هو شاب يبلغ قرناً وأربع سنوات، لا نشعر، من مجالسته، أنّنا أمام شيخ، الزّمن لم يؤثّر عليه كثيراً، علامات التّقدّم في السنّ تظهر – فقط – في نظره، الذي ضعف قليلاً، في ركبتيه، اللتين صارتا تتحرّكان ببطء، عدا ذلك فإن ذاكرته ما تزال قوية، ونكته ما تزال طازجة. «عندما تجاوزت المئة عام، قبل أربع سنوات، اعتقدت أن نهاية العالم قد قربت» يقولها ضاحكاً. ويضيف: «أظنّ أن الحياة كان ستسير على ما يرام لو لم تندلع كلّ هذه الحروب، تحت مسمّى محاربة الإرهاب. لقد حطّموا العراق، ماذا استفاد العالم من خرابها؟» يتساءل صاحب «رحّالة بلا واحات».
في «فيلا على النّهر» (1952)، يعود البطل، بعد الحرب العالمية الثّانية، إلى زيارة محتشدات النّازية، يستعيد فيها أشخاصاً وأحداثاً عرفها، هذا البطل الرّاوي ليس سوى بوريس نفسه، الذي خبر الفظاعات وتمزّقات الحرب، وسُجن في المحتشدات، في ألمانيا وفي شرق فرنسا، لهذا فإن الرّوائي يفهم خلفيات الحرب الحالية، ضدّ الإرهاب، يُدرك أسبابها ويتنبّأ بنتائجها. «العام الماضي، تحدّثت أمام البرلمان الأوروبي. منحوني خمس دقائق، ضاعفتها إلى عشر ثم تكلّمت ربع ساعة، لأخبرهم أن المواجهة العسكرية لن تفيد كثيراً، وأن الحلّ في نقاش موسّع، يُشبه ندوات المناخ العالمية، أن نجلس إلى طاولة للتّفكير، وحلّ هذه القضية لن يتمّ في عامين أو ثلاثة، بل قد يستمر عقوداً. الحوار طريقنا لمواجهة الإرهاب» يقول.
بوريس باهور وُلد مرتين، ميلاد بيولوجي ثم آخر أدبي، بإصدار رواية «مدينة الموتى». هي رواية الظّلمات، رواية القسوة والتّعذيب، لا يتحدّث فيها باهور عن نفسه فقط، بل أيضاً عن رفاقه، عن مساجين آخرين، كان يراهم يرمون إلى قاع الإنسانية، يجرّدون من صفاتهم ومن أرواحهم، منهزمون أمام الآلة النّازية، مع ذلك فقد جانبت الرّواية مشاعر البكاء أو الحسرة، وراهنت على البعد الإنساني لشخصياتها، فبوريس باهور يُدافع عن سعادة قارئه لا كآبته» كل إنسان يستطيع أن يصنع سبباً للسّعادة، في الحياة، أن يجد دافعاً للعيش. بالنّسبة لي، سعادتي كانت دائمأً في الكتابة. في شبابي، كنت أعيش ملتصقاً بالآلة الرّاقنة، لدرجة أثارت غيرة زوجتي» يصرّح.
باهور كاتب الأقليّة السّلوفينية، المُدافع عن لغة لا يتكلّمها أكثر من مليوني شخص، لكنها فرضت نفسها، في الأدب والمسرح والتّكنولوجيا، يقول: «شاركت، في الحرب العالمية، بعقلية كاتب وليس بعقلية جندي». هو يمقت الحرب، ولا يرى نفسه محارباً. حين جُند، في أوائل العشرينيات من عمره، في كتائب «القمصان السّوداء» (التّابع للحزب الفاشي)، وأُرسل إلى ليبيا، افتعل مرضاً لمغادرة الخدمة العسكرية. «أنا سعيد لأني خرجت من الجيش، ولم أُحارب ضدّ مبادئي. أرسلوني إلى سرت، ثم بنغازي ودرنة، وتركت الجيش بعدها، لأقوم بحربي ضدّ الفاشية».
فاشية موسوليني انتهت، لكن «فاشيات» أخرى وُلدت بعدها. «أمبرتو إيكو يحدّد في كتابه «التعرّف على الفاشيات»، عشرة أنواع من الفاشية، وأنا أظنّ أنه يوجد أكثر من ذلك» يقول. الفاشية صارت إرثاً يتوزّع، بالتّساوي، على العالم. سألنا الكاتب عن رأيه في ما يحصل في فلسطين، فأجاب: «يُحزنني ما تفعله إسرائيل، وأدينه. هل يعقل أن يصل الأمر إلى إضراب أسرى؟» يقولها ثم يصمت، في تحسّر وألم. ويضيف: «الفاشية هي كلّ محاولة لتهديم الهويّات».
بوريس باهور ليس مجرد روائي، وحارس للغة السّلوفينية، بل أيضاً شخصية جدلية في مقالاته وتصريحاته، التي كثيراً ما سببت له مشاكل، خصوصاً سنوات الماريشال تيتو، هو صوت السّاكتين، وناطق باسم من منع عنهم الكلام. لقد وُلد في العام نفسه مع ألبير كامو، لهذا فهو يعود دائماً إلى صاحب «الغريب»، ويقول عنه: «كامو هو رفيقي الأدبي. هو كاتبي المفضّل. لقد شعر، في واحدة من لحظات حياته، بتأنيب ضمير، لأنه لم يفعل شيئاً لمساندة مساجين المحتشدات النّازية. لكنه كتب روايته الأهم «الطّاعون»، وهي تلميح أدبي للطّاعون الأكبر الذي كان ينخر جسد أوروبا: النّازية. النّازية كانت طاعوناً، في الماضي، والطّاعون اليوم هو كلّ ذاكرة لم تكتب» يقول بوريس باهور. الطّاعون هو النّسيان، هو الذّاكرة الاختيارية، التي تمجد ضحايا على حساب آخرين، هو ما ضاع منّا في حمّى الرّكض خلف الأحداث، بحسب الكاتب.
الرّواية «الباهورية»، هي احتفاءً بالمكان، ثورة في الدّفاع عن اللغة الأمّ، واستعادة – مستمرّة – للذّاكرة، وللوقائع التي حوّلت، في القرن الماضي، أوروبا إلى «مدينة موتى». قبل ثماني سنوات، ورد اسم بوريس باهور، في ترشيحات نوبل للأدب، هكذا ظلّ اسمه وارداً، عاماً بعد آخر، كلّ مرّة تخطئه الجائزة، ويزداد هو استحقاقاً لها. «شخصياً، لا تهمنّي جائزة نوبل، ليست تعني الكثير لشخصي، لكن يهمّني أن تجد أعمالي الاستحقاق الذي يليق بها» يختتم.

 

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى