خطاط مغربي من القرن الثاني عشر يقدم صورة لدمشق

نور الدين الزويني

قراءة رواية “أكتب إليك من دمشق” للروائي المغربي محمود عبدالغني هي بمثابة سفر عبر 236 صفحة، مع قصة ناسخ مغربي حسن الخط وواسع الإطلاع من مدينة فاس في القرن الثاني عشر الميلادي، يتلقى دعوة للمشاركة في عملية نسخ جماعي لكتاب “تاريخ دمشق” لابن عساكر الذي يقع في ثمانين مجلدا، سيكون نصيبه منها ثمانية مجلدات.

لقد كان بطل الرواية من بين عشرة من أحسن الخطاطين والنساخ وقع عليهم اختيار العلامة الحافظ ابن عساكر لنسخ كتابه “تاريخ دمشق” المعروف في المغرب بـ”التاريخ الكبير”، وهو مؤلف ضخم يعد قمة اجتهاده وإيمانه.

وما إن سمع نورالدين محمود، ملك دمشق وحلب، أن ابن عساكر كان يؤلف كتابا عن دمشق وأن انشغالاته أحجمته عن إتمامه، حتى بعث إليه يحشد همته لإتمامه، وطلب منه الاستعانة بخيرة النساخ لنسخ هذا الكتاب الكبير.

ومنذ تلقي الناسخ المغربي لهذه الدعوة وهو يعد العدة ماديا ونفسيا، يسأل ويقرأ عن مدينة دمشق “أم الشام”، وعن الحافظ العلامة ابن عساكر. وفي غمرة حديثه عن الإعداد للسفر يقدم خريطة موسعة لفن النسخ في المغرب في القرن الـ12.

لم يكتف الناسخ المغربي المنحدر من مدينة فاس بالاستعداد ماديا لهذا السفر، بل عمل على التزود بالوثائق وسعى لدى الخطاطين والنساخ في مدينة فاس لجمع كل المعلومات حول النسخ والخط والوراقة، وحول مختلف أنواع المداد والورق المستعملين. كما استعلم لدى أولئك الذين سبق لهم أن سافروا إلى الشام . كان يريد أن يعرف كل التفاصيل قبل رحلته إلى دمشق والشروع في هذه المهمة العسيرة التي أوكلت إليه.

من خلال الرواية، الصادرة عن دار العين المصرية للنشر، يكتشف القارئ التقدم الذي كان يعرفه فن الوراقة في المغرب والمهارات التي كانت لدى النساخ والوراقين بمدينة فاس حيث كانت فنون الوراقة والنسخ مزدهرة في القرن الـ12.

يتقدم السرد على لسان الراوي، وتتقدم معه أحوال السارد: كيف يهجر زوجته وحبيبته “أم العيد” ويتركها في فاس؟ كيف ستستقبله دمشق؟ كيف سيلتقي الحافظ ابن عساكر؟ ومن هم النساخ الذين سيشاركونه في عملية النسخ الجماعي؟

ومن خلال الجواب السردي عن هذه الأسئلة تقدم رواية “أكتب إليك من دمشق” مناخا معرفيا وتخييليا عن دمشق المتخيلة، عن ابن عساكر كما هو مرسوم في ذهنيات المغاربة، وعن النسخ والوراقة، وعن الفنادق التي سيقيم فيها الناسخ المغربي.

في هذا الرواية يأخذ محمود عبدالغني القارئ في سفر إلى الشام، وبالذات إلى دمشق “أم الشام” في القرن الـ12، ويحكي الراوي عبر أجزاء الرواية الأحد عشر ارتحاله عبر فاس ودمشق وبغداد وكذا العودة في ما بعد إلى بلده.

سحرت دمشق بأسواقها، وخاناتها (فنادقها)، وأزقتها، ومساجدها وصوامعها، وكنائسها، وأديرتها، وأناسها وفقهائها وعلمائها وأدبائها، الناسخ المغربي الذي قال عنها “دمشق يا عظيمة الشأن، أنت ملاك قديسة”، فقد اندهش “لعظمة بحر العمران، ولتأنق الصنائع، ومن جملتها صناعة الوراقين. المدينة شديدة التمدن، (…). فالناس هنا مقبلون أشد ما يكون الإقبال على التآليف العلمية والدواوين، وحريصون على تناقل هذه المؤلفات وتداولها”.

لكن إقامته بها توقفت بسبب جفاف ضاقت معه الصدور عندما احتبس الغيث بأرض الشام، فبدأ الزرع يتلف، والأسعار ترتفع، ولاحت نذور القحط أكثر ببلاد الشام، وحروب الإفرنج على البلاد التي كثرت معها مراسلات الاستغاثة إلى مصر والعراق، وانتشار أتباع الباطنية الذين كانوا يعيثون فسادا في “أم الشام”، وقطع الطرقات فيها، فضلا عن “فساد رهط الشاميين أنفسهم”.

عندما لم يعد ممكنا “استعادة دمشق القديمة”، التي تحولت إلى “مكان مليء بالشر” ، وأصبحت مساجدها أمكنة للقتل، وأصبح الموت فجأة كل شيء في مدينة كانت فيها الحياة كل شيء، قرر الناسخ المغربي مغادرة “أم الشام” والتوجه إلى العراق رفقة ناسخ عراقي اسمه “سنان” كان هو الآخر أتى إلى دمشق للمشاركة في النسخ الجماعي لمؤلف “تاريخ دمشق” لابن عساكر.

عبر صفحات هذه الرواية، يقدم محمود عبد الغني للقارئ تفاصيل هائلة حول فنون النسخ والخط، ويقدم تأريخا لهذه الصناعة العريقة التي انتشرت في المغرب والمشرق. كما يبرز غنى فترة من التاريخ المضطرب للشام ودمشق الـ”مفتوحة القلب” ذات الثمانية أبواب، والازدهار الذي عرفه المغرب في تلك الحقبة على المستوى الثقافي والاجتماعي.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى