قصائد تونسية تمتدح اليومي وتهجو الحاضر العربي المؤلم

سفيان رجب

تمثّل مجموعة “القتلة مازالوا هنا” للشاعر التونسي محمد العربي إحدى الشهادات عن حالات القلق والخوف والفراغ التي يعيشها الإنسان العربيّ متأثرا بمشاهد الدم والدمار التي تطوّق حياته.

عنوان المجموعة يحمل أكثر من دلالة، فيمكن أن نقرأه بالمعنى الإخباري الذي تطالعنا به الصحف اليوميّة، كما يمكن أن نقرأه بالمعنى التّحذيري فالشاعر يذكّرنا وهو يلوذ بطفولته بالشهيد محمد الدرة في مشهده الملحمي الذي ذبح به كل العالم وهو يواجه قتلاه بصرخته، كما يمكن أن نقرأه من ناحية أخرى عن طريق المعنى الاستنكاري من وجود القتلى أصلا.
سيرة مهشمة

يفتتح الشاعر مجموعته بمقطع شعري لرافائيل ألبرتي يقول فيه “غزالتي أيها الصّديق الطيب، غزالتي البيضاء قتلتها الذّئاب، غزالتي التي هربت عبر النهر، الذّئاب قتلتها في أعماق الماء”. واقتداء بهذا المقطع الذي يتحرّك بدوّاستيْ الهشاشة والقسوة يأخذنا الشاعر عبر نصوص مجموعته إلى عوالم طفولية تحفّها الصور البسيطة والبريئة والهشّة.

لكنها لا تكفّ عن الاحتجاج ضدّ قسوة هذا العالم، الذي يرى الشاعر أنّ الحياة فيه أكثر وحشيّة من حياة الأدغال، يقول “هذا الدّغل المسمّى حياة، صار أكثر عماء ووحشيّة، مولاي منذ سنين وأنا أقبع في كهف مظلم، منتظرا لقاءك، لأحدّثك عن حزن لا يفهمه سواك”.

يعود الشاعر إلى جذور الدم في ذاكرة الإنسان، إلى فكرة القتل الأولى التي حرّكت نواياه، ثمّ يدير الكاميرا بين أقبية التعذيب وغرف الموت والسجون والمنافي، هذا دون أن يفقد لغة الطفل فيه، المحتجّ والسّاخر أحيانا، والعاشق الذي يتلهّف إلى لمسة من يد حبيبته ليشفى من ألم التعذيب اليومي كما يكتب في أحد نصوصه.

في مجموعته هذه “القتلة مازالوا هنا”، الصادرة عن مؤسسة أروقة للنشر والتوزيع بمصر، لم ينس محمد العربي أن ينشر بين النصوص نثار سيرته الذاتية، فيذكر مثلا اسمه وعمره في نص يقول فيه “ثلاثون سنة يا محمد، ثلاثون صرخة، ثلاثون طريقا لم تختر منها واحدة”، ويذكر الشاعر تفاصيله اليوميّة بين جامعة منوبة والمقاهي والبارات والشوارع وغرفته الصغيرة حيث تنتظره الحبقة في الشرفة ليتبادل معها النظرات الكئيبة، وتتساقط وريقاتهما مع الريح.

هكذا يقول العربي في نصّ “حبقة”، فبدت المجموعة سيرة مهشّمة لشابّ شاعر من تونس لا تختلف تفاصيلها كثيرا عن أبناء جيله من الشباب التونسيين، وهذا رهان التجربة الشعرية الجديدة التي تفتح باباً على سجلات التوثيق لليوميّ والهامشيّ في حياة الذّات الإنسانية بعيدا عن جوقة الجماعة التي ظلّ دويّها يكبت أنّات الذّات طيلة مئات القرون من حياة الإنسان.
العودة إلى استلهام الفنّ البدائيّ بما يحمله من عفوية وبساطة إن كان ذلك في الفنون التشكيلية كالنحت والرسم التي تحاكي رسوم الكهوف والجداريات الأولى، أو في فنون الكلام كالشعر مثلا الذي عاد إلى تمتمات الكهنة والأناشيد الأولى، كلّ هذا يعكس رغبة الإنسان في استعادة

صفائه الروحيّ والبحث عن جوهر الطفل الكامن فيه، متخفّفا بذلك من واجب المقروئيّة الثقيل الذي حصره في زاوية الصنعة المتكلّفة.
العودة إلى الينابيع

قصائد العربي تقترح تصوّرها لهذه العودة إلى ينابيع اللغة الأولى بعيدا عن دوّامة الاستعارات والمجازات والرموز، فالشاعر يذهب إلى الفكرة بأبسط التكاليف اللغويّة، لنقرأ هذه القصيدة مثلا “أيتها الغزالة”: صباح الخير أيتها الغزالة، لا تهربي، لست هنا للصيد، انظري إنني لا أحمل بندقيةً على كتفي، لا سهام بين أصابعي لأطلقها، ولا يتبعني كلب سوى ظلّي، إننا هنا لنقول لك فقط صباح الخير، قبل أن يداهمنا الصيادون.

هذا النص يعكس هشاشة الكائن الشعريّ، والصورة توقفنا أمام مشهد الإنسان البدائيّ وهو يواجه فريسته، محاكيا صوتها لترويضها، قبل أن يقتنصها ويعود بها إلى كهفه، ومن ثمّة يرسمها على الجدران، فالمشهد يعود إلى البدايات حيث الطبيعة العذراء واللغة المتلعثمة البسيطة، بينما الخطاب يذهب إلى المستقبل حيث الإنسان الشاعر الذي وعدت به كلّ الفلسفات، وحلمت به كلّ الفنون، الإنسان المتفاعل مع الطبيعة دون أن يشوّه يديْه بدمها.

تحملنا مجموعة “القتلة مازالوا هنا” إلى الإقرار بأن الشاعر هو ذلك الكائن الذي تسعى قدماه على الأرض، بينما عيناه تسعى في السماء، ويلخّص العربي جوهر كتابه بهذا المقطع الذي يقول فيه “أكتب فقط، كيْ أخبر الله عن الدم الذي أغرق كلّ شيْء”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى