غضبة السياسي وقناعات الفنان: شوستاكوفيتش ضد ستالين

أمير العمري

من الصعب أن تتناول الأفلام الوثائقية علاقة الفنان بالسلطة السياسية، كيف يمكن للفنان المبدع أن يحافظ على استقلاليته، خصوصا في أوقات يخوض خلالها النظام السياسي صراعا دمويا من أجل ترسيخ سيطرته ووجوده.

ولعل من بين الإشكاليات المرتبطة بهذا الموضوع أيضا ما يتعلق بما يمكن أن يبدو لبعض الراصدين وكأنه خضوع من جانب الفنان لما تطلبه منه السلطة، وبالتالي تغاضيه عن ضرورة اتخاذ موقف واضح فيما يحدث حوله من تجاوزات.

هذا الإشكالية هي موضوع الفيلم الوثائقي الكندي “سيفمونيات الحرب: شوستاكوفيتش ضد ستالين The War Symphonies: Shostakovich Against Stalin الذي أخرجه لاري وينستين Larry Weinstein ويعد واحدا من أفضل وأكثر الأفلام الوثائقية عمقا من بين تلك التي ظهرت عن الموسيقار الروسي الكبير ديمتري شوستاكوفيتش (1906- 1975). ولا ترجع صعوبة فيلم من هذا النوع فقط إلى ما يكتنف موضوعه من مشاكل تتعلق بالبحث عن الحقيقة من شتى وجهات النظر لكي لا يبدو الفيلم وكأنه يتبنى وجهة نظر أحادية، بل ومن كون الفنان- موضوع الفيلم هنا هو موسيقار يؤلف الموسيقى، التي يعتبرها كثيرون الفن الأكثر تجريدية من بين الفنون السبعة، وبالتالي يستبعدونها من دائرة التأثير السياسي.

ينجح مخرج فيلم “شوستاكوفيتش ضد ستالين” في تحقيق تآلف بين العناصر البصرية والموسيقى على نحو نادر. إنه ليس فيلما من أفلام السيرة الشخصية (أو البورتريه) الذي يقدم صورة تفصيلية قريبة للشخصية موضوع الفيلم، بل عن الصراع بين الفنان وواجبه ودوره عندما يواجه بقوة عاتية أكبر من قدرته على المواجهة فيكون التصدي من خلال ما يبدعه من فن حتى لو كان تأليف السيمفونيات والكونشيرتات والمقطوعات الموسيقية.
علاقة معقدة

إنه فيلم عن تلك العلاقة المعقدة التي لايزال يكتنفها الكثير من الغموض، بين شوستاكوفيتش وستالين، بين الفنان والديكتاتور، بين رجل كان ينشد التعبير الحر الصادق من خلال موسيقاه، وبين عقل مؤدلج يرفض إلا أن يخضع كل أشكال الفنون للوصايا الأيديولوجية، ويعتبر أي خروج عن تلك “الوصايا”، “خيانة” وانحيازا للمنطق “البورجوازي” وانحرافا في اتجاه “الشكلانية” الفارغة من المضمون!

يعتمد الفيلم أيضا على شهادات عدد من الشخصيات (نحو 20 شخصية) من الرجال والنساء الذين عرفوا شوستاكوفيتش عن قرب خلال ما عرف في الاتحاد السوفيتي بـ “سنوات الرعب”، سواء من زملائه أو أصدقائه أو أقاربه (ابنته تحديدا) أو أساتذة الموسيقى ونقادها ممن كانوا على قيد الحياة وقت تصوير الفيلم في موسكو وليننجراد. كذلك يعتمد المخرج في بناء فيلمه على ما ورد في مذكرات شوستاكوفيتش التي صدرت باسم “الشهادة” The Testimony عام 1979 بعد وفاة صاحبها بأربع سنوات.

يتضمن الفيلم الكثير من المشاهد الوثائقية التي تربط على نحو خلاب، بين الموسيقى والتعليق الذي نسمعه على شريط الصوت من خارج الصورة من الشخصيات التي تظهر في الفيلم أو كقراء لمقتطفات من مذكرات الموسيقار، وبين الأحداث الموثقة ذات الدلالة الخاصة في تاريخ روسيا الحديث. ويعيد المخرج وينستين أيضا تجسيد بعض المواقف من خلال الاستعانة بالممثلين، كما يظهر شوستاكوفيتش نفسه في كثير من اللقطات التسجيلية في مواقف مختلفة.
بداية الصدام

يتوقف الفيلم طويلا أمام الحدث الذي كان بداية الصدام بين شوستاكوفيتش وستالين أي أوبرا “ليدي ماكبث من إقليم متسنيسك” (التي نشاهد مقاطع منها في الفيلم)، والتي عرضت 180 مرة في مدن روسيا عام 1934، وحققت نجاحا كبيرا. وفي أوائل العام التالي 1935، اتصل أحد أصدقاء شوستاكوفيتش به ونصحه بالذهاب إلى المسرح لحضور عرض الأوبرا التي كانت تصور كيف تقتل امرأة زوجها ذي الشخصية المتسلطة الكريهة. وهناك كما نرى من خلال إعادة تمثيل المشهد، ونستمع من خلال روايات الشهود، فوجيء شوستاكوفيتش بحضور ستالين وأعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي إلى المسرح. وقبل نهاية الفصل الثالث غادر ومعه صحبه. وبعد يومين نشرت صحيفة “برافدا” الناطقة بلسان الحزب الشيوعي مقالا ناريا يشن هجوما عنيفا على الأوبرا وعلى شوستاكوفيتش ويصف موسيقاه بأنها عبارة خليط من “الفوضى”. وكما كان سائدا في تلك الفترة وجهت الصحيفة تهمة الانحراف تجاه “الشكلانية” إلى شوستاكوفيتش. وقد تم وقف عرض الأوبرا.

عام 1935 نتابع قصة “السيفمونية الرابعة”، التي يرى الخبراء الموسيقيون أنها كانت تعبر عن رفض شوستاكوفيتش واحتجاجه على القهر والتصفيات التي كانت تجري في عموم الاتحاد السوفيتي، الأمر الذي تسبب في منعها قبل تقديمها للجمهور. ومنذ تلك اللحظة تغيرت حياة الموسيقار الكبير، وزاد شعوره بالقلق على حياته خاصة بعد أن تعرض الكثير من أصدقائه وزملائه ومعارفه للسجن والتشريد والإعدام.

وبعد منع السيمفونية الرابعة كتب شوستاكوفيتش السيمفونية الخامسة التي لاقت استحسانا كبيرا ولم تتعرض لها السلطات بل كان هناك – كما يري الفيلم- من اعتبرها بمثابة تراجع من جانب صاحبها عن ميوله السابقة، بعيدا عما قيل عن الطابع التشاؤمي الذي صبغ السيمفونية الرابعة، التي اختفت تماما عن الأنظار كما نعرف، ولم يعلم بوجوها الكثيرون الى أن عادت الى الحياة عام 1961 خلال فترة نقد الستالينية في عهد خروتشوف.
سيمفونية الحصار

خلال سنوات الحرب كتب شوستاكوفيتش ثلاث سيمفونيات أشهرها “السيمفونية السابعة” التي يتوقف الفيلم أمامها. وقد كتبها شوستاكوفيتش أثناء وجوه في مدينته ليننجراد التي كانت وظلت لسنوات محاصرة من قبل الجيش الألماني، حصارا قاسيا أدى إلى وفاة الملايين من سكانها جوعا ومن قسوة البرد. في الفيلم لقطات تسجيلية نادرة لهذا الحصار وآثاره على السكان: نساء يسرن وهن يجرجرن الأكفان لدفن جثث أقاربهن التي نراها فوق الثلوج.. رجل من الناجين يروي كيف أنهم كانوا يأكلون أي شيء مثل الصمغ المستخدم في ورق الحائط، والجلود بعد ان التهموا تماما على كل القطط والكلاب في المدينة. وتروي سيدة عن اضطرار البعض لتناول أجزاء من لحم الموتى. كل هذه المناظر نشاهدها على خلفية لموسيقى السيمفونية السابعة ذات القوة الهائلة التي اعتبرت تعبيرا عن روح سكان المدينة. تقول سيدة في الفيلم إنها رغم البرد والجوع ذهبت الى المسرح للاستماع إليها واعتبرتها سميفونيتهم: “كانت لنا.. وكانت أفضل غذاء لنا وقد ألهمتنا الصمود واعادت إلينا الحياة”.

عزفت السيمفونية للمرة الأولى في مارس 1942 ولاقت استقبالا حماسيا هائلا. وفي أغسطس 1942 قدمت في ليننجراد ويقول بعض الشهود في الفيلم انهم كانوا يسمعون صوت انفجار القنابل خارج المسرح لكنهم كانوا ينصتون باهتمام. قدمتها فرقة مهلهلة كونها صديق لشوستاكوفيتش من كل من يمكنه العزف بعد أن توفي نصف عازفي فرقة المدينة في الحرب، ولذلك فنحن نشاهد كيف وضعت آلاتهم الموسيقية على المقاعد الخالية أثناء عزف السيمفونية على المسرح. وتستعرض الكاميرا نفس المسرح في الوقت الحالي بمقاعده الخالية على صوت موسيقى السيمفونية السابعة، ثم نرى فرقة روسية تعزفها من زوايا مختلفة بايقاع سريع، وعلى صوت يحاكي صوت شوستاكوفيتش نشاهده في لقطات وثائقية، وهو يعزف على البيانو مقاطع من تلك السيمفونية ونستمع إلى كلمات من مذكراته تقول: “لم تكن السيمفونية السابعة فقط عن ليننجراد بل عن ليننجراد التي دمرها ستالين وأجهز عليها هتلر”.

يستعين المخرج وينستين في الفيلم بفرقة راديو هولندا السيفونية وأوركسترا مسرح مارينسكي لعزف سيمفونيات شستاكوفيتش.
الجدانوفية

يتوقف الفيلم عند الهجمة الشرسة التي شنها ستالين ورفاقه عام 1948 مجددا على المثقفين والفنانين في الاتحاد السوفيتي تحت زعم مقاومة النزعات الشكلانية وضرورة الالتزام بالواقعية الاشتراكية ذلك النهج الذي تبناه وروج له بالقوة أندريه جدانوف، وعرف فيما بعد بالجدانوفية نسبه إليه، وهو منهج يفرض وصاية على الأدب والفن، ويرمي الى تطويعه لسياسات الحزب. في تلك الفترة منعت كل أعمال شوستاكوفيتش، وطرد من معهد الموسيقى الذي كان يقوم بالتدريس فيه، وأصبح مهددا في رزقه، لا يكاد يجد ما ينفق به على أسرته. واضطر للعمل في كتابة الموسيقى لعدد من الأفلام الدعائية الرديئة لستالين شخصيا كما تقول استاذة الموسيقى ماريانا سابينينا في الفيلم.

تروي سابينا في الفيلم كيف أن نائب وزير الثقافة سلم ورقة طلب من شوستاكوفيتش أن يقرأها على الحضور في مؤتمر اتحاد الموسيقيين السوفيت، وكانت تحوي إدانة لنفسه وموسيقاه، وقد أخذ يقرأها، وعندما وصل إلى حيث عبارة “وموسيقاي التي تعتبر خيانة للشعب” توقف ونظر أمامه نظرة ساهما ثم تمتم قائلا: عندما أعبرعن مشاعري بصدق من خلال الموسيقى فكيف أكون خائنا للشعب؟ بل إنني أعتقد أنني أنا أيضا- على نحو ما- “الشعب. لكنه واصل القراءة بعد ذلك دون أدنى شعور.

يقدم الفيلم خطبة رئيس اتحاد الموسيقيين السوفيت تيخون كرينيكوف (الذي ظل في موقعه من عام 1948 حتى عام 1991 مع سقوط الاتحاد السوفيتي وتوفي عام 2007) أمام مؤتمر الموسيقيين السوفيت وفيها يمتدح ستالين ثم يظهر تيخونوف بعد 48 سنة عندما سجل المخرج معه المقابلة التي يستخدمها في الفيلم ليقول إنه لم يكتب هذه الكلمة، بل أعطيت إليه، وإنه لم يكن متحمسا لقراءتها (على العكس مما نرى في اللقطات) كما يتحدث عن شوستاكوفيتش ويقول إنه لا يعتقد انه كان مهددا أو مذعورا بل كانت ردود فعله تجاه الأحداث “طبيعية”. ويعلق أحد المعاصرين للأحداث بقوله: لقد وقف تيخونوف الى جانب الموسيقيين ولم يكن يسمح باعتقال أحد منهم، لكنه كان يعتقد أن شوستاكوفيتش شكلاني ويجب أن يتم تلقينه درسا!
تقديس الفرد

تظهر في الفيلم لقطات لاحتفالات النصر في الساحة الحمراء في موسكو وستالين يحيي الجماهير التي تصطف لتحيته، والاستعراضات الرياضية والتشكيلات الفنية التي تقوم بها مجاميع من الشباب أمامه، أعلام وصور لستالين في كل مكان. وتروي سابينينا كيف أبلغ شوستاكوفيتش بضرورة تقديم نفسه أمام محقق في موسكو، وقد منحه الرجل فرصة أسبوعا لكي يعود ويقدم اعترافات كاملة بانحرافه عن خط الحزب، وعندما عاد في الموعد بعد ان ودع أسرته، واثقا إنهم سيعتقلونه، وجد أن الضابط نفسه قد أعتقل قبل يومين وبذلك نجا شوستاكوفيتش من الاعتقال!

كان ستالين معجبا بلحن شعبي يدعى “ساليكو” وفي رد فعل فني طريف من جانب شوستاكوفيتش قام عام 1948 في خضم الحملة على الفنانين الروس بتأليف “رايوك” Rayok على نمط “ساليكو” في مقطوعة تعرف في الموسيقى بـ “كانتاتا” من أربعة أصوات بما فيها صوت البيانو، تسخر بوضوح من الحملة التي شنها جدانوف على الموسيقيين. نرى تجسيدا في الفيلم لهذه المقطوعة التمثيلية حيث يظهر شخص يحاكي ستالين في المظهر والصوت، يغني كيف يجب مكافحة انحرافات الموسيقيين الشكلانيين، بينما ينصت شخص يماثل جدانوف ورفيقاه باهتمام. وتقول ماريزا شيبالينا زوجة أحد اصدقاء شوستاكوفيتش من الموسيقيين إنه عرض المقطوعة على زوجها وطلب رأيه فنصحه بتدميرها أو اخفائها فورا وإلا أصبحت حياته مهددة!

من الأفلام التي أمر ستالين بأن يكتب لها شوستاكوفيتش الموسيقى فيلم “سقوط برلين” الذي نرى منه لقطات في الفيلم، كانت ترمي الى تمجيده والاحتفاء بدوره كزعيم فذ في تحقيق النصر على النازية، ولكن من خلال تصوير الكثير من المبالغات مما يجعله أحد افلام تكريس مبدأ “تقديس الفرد”.

ينتهي الفيلم بمشهد جثمان ستالين عند الكرملين، والجماهير تودعه في صفوف متعاقبة، تتقاطع هذه اللقطات مع لقطات لأعضاء الفرقة الروسية وهي تقدم السيمفونية الرابعة (التي نعرف أنها لم تقدم سوى بعد وفاة الديكتاتور).. ثم جنازة ستالين على صوت دقات الطبول والموسيقى التي تصل الى كريشندو. ويظهر تمثال مشوه لستالين منقلب على جانبه، مخفي في مكان مظلم. لقد انتصرت الموسيقى على الديكتاتور.

هذا نموذج رائع للفيلم الوثائقي الحديث الممتع الذي لا يكتشف ويعرض فقط بل يسخر ويعلق ويمزج بين اللقطات الأرشيفية القديمة واللقطات الحديثة، بين الموسيقى والتاريخ والسياسة، بين مقاطع من الأفلام القديمة، من السينما ومن الدعاية، ويتوقف أمام المسار الشخصي للإنسان، يفحص ويتأمل ويطرح التساؤلات. وفضلا عن هذا كله، يمتع المشاهدين بتلك الطاقة المليئة بالمشاعر التي تنتج عن ذلك الجدل المستمر بين الصوت والصورة.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى