«ورد وياسمين»… صرخة في وجه مجتمع لا يرحم

يسري حسان

لو انتمى أصحاب هذه الإعاقات إلى مجتمع تعرف الرحمة طريقها إلى قلبه، لتغير خطابهم المسرحي تماماً، وبدلاً من أن ينصب على الشكوى من نظرته إليهم وفجاجته في التعامل معهم، كان ليتخذ مساراً آخر. لكن كيف يتغير الخطاب وهم يواجهون مجتمعاً يقسو ويسخر ويضع ما استطاع من عراقيل في طريق أحلامهم وتوقهم إلى حياة أفضل؟
في عرض «ورد وياسمين» الذي يقدمه مسرح الشباب التابع للبيت الفني للمسرح المصري، 25 طفلاً من أصحاب الإعاقات المختلفة، أو هي على وجه الدقة خمس إعاقات، سمعية وبصرية وحركية وذهنية وجسدية، والأخيرة نعني بها قصر القامة الشديد، وإن حرص العرض على استبعاد لفظة «قزم» لما فيها من تقليل من شأن قصير القامة وإهانة له. اختار كاتب النص والأشعار أيمن النمر إطاراً درامياً بسيطاً يعرض فيه ما يواجهه أصحاب هذه الإعاقات من مشكلات في تعاملهم مع المجتمع. والنص ليس من النوع الثقيل أو المركّب أو المثير للأسئلة، لكنه مثير للأسى، ليس على هؤلاء الصبية الذين هم «ورد وياسمين» ولكن على المجتمع الذي لم «يرقق» إحساسه دين أو أخلاق.
والنص مكتوب من واقع تجارب الممثلين أنفسهم ومعاناتهم، ونجح المخرج شريف فتحي في إسناد الأدوار وفق حالات الإعاقة، ما أضفى واقعية كبيرة على العمل. ولأننا في مسرح، لم يكن مستساغاً أن يصعد إلى الخشبة كل صاحب إعاقة ليجسد مشكلته منفرداً، وهو ما وعاه المؤلف من طريق ذلك الإطار الدرامي وأدركه المخرج عبر دمج هذه المجموعة وتدريبها.
مجموعة من الأطفال والصبية، منهم من يقدم الاستعراض ومنهم من يغني على ألحان بسيطة تراعي ظروف المغنين وضعها إيهاب حمدي، ومنهم من يمثل، سواء بالكلام أو الحركة أو الإشارة. هم يشكلون حالة فنية متكاملة لا تدفع المشاهد إلى التعاطف معهم بقدر ما تدفعه إلى الإعجاب الذي قد يصل إلى حد الانبهار بتلك الطاقات الفنية التي استطاع المخرج حضّها على التفجر، فقط لأنها الإرادة التي تجعل المكفوف والأصم والمصاب بالشلل والمعاق ذهنياً، يقف واثقاً أمام الجمهور ليؤكد أن الإعاقة ليست في الجسم ولا بفقد حاسة من الحواس بل في فقد الإحساس، صارخاً في وجه المجتمع «فاقد الإحساس» ومتهماً إياه بأنه هو «المعاق».
وسط هؤلاء الصبية من ذوي الحاجات الخاصة، كان هناك ثلاثة من الممثلين الذين لم تلحق بهم إعاقة، هؤلاء مثلوا المجتمع (الموظف والمعلمة ومساعد الطبيب). والمثير للاهتمام أنهم جميعهم من أصحاب البنية القوية كما أظهرهم الماكياج بملامح حادة، وهو اختيار جيد وذكي، فهؤلاء يواجهون هذه الورود الحالمة بحياة أفضل، هؤلاء هم أداة القمع ومبعث الإحباط، وكأن المخرج قد اختارهم بهذه المواصفات ليعكس من خلالهم عنف المجتمع وقسوته، فلا أحد تبدو على وجهه علامة تشير إلى حس إنساني، وكأنه يصفع المجتمع ويقول له تلك هي صورتك، أو أن العرض هو مرآتك التي يجب أن تشاهد فيها نفسك، لعلك تستعيد إنسانيةً فقدتها.
لا ديكور سوى مجموعة من الأشرطة المتداخلة، وكأنها القيود التي يكبل بها المجتمع هذه الفئة. والإضاءة أقرب إلى الإنارة. لا حاجة في عرض كهذا إلى تقنيات فائقة، وإن كان العرض على رغم ذلك لم يفقد جمالياته، ولم يبتعد كثيراً عن عالم المسرح إذا اعتبرنا أننا نتعامل ليس مع هواة فحسب بل مع هواة لهم ظروفهم الخاصة، وبقدر ما تؤلمنا قضيتهم، تبهجنا طريقة عرضها لنا وكأنهم يعون جيداً أنهم في مسرح.
يناقش العمل مواضيع عدة في سياق درامي سلس، منها ذلك القانون الذي يفرض على كل منشأة أن يشكل أصحاب القدرات الخاصة خمسة في المئة من عامليها، بيد أنه لا ينفَّذ. ويعرض أيضاً قضايا التعليم وكيف أن المكفوف ليس من حقه الالتحاق بكلية الحقوق، فضلاً عن المعاناة من عدم وجود كتب بطريقة برايل.
ويضيء على أن المناهج في التعليم الفني التي يدرسها الطلاب العاديون هي ذاتها التي يدرسها الصم والبكم. ومن خلال ممثل مصاب بإعاقة ذهنية وحركية، تعرض المسرحية الإهمال الطبي في المستشفيات وكيف أن إهمال أحد الممرضين أدى إلى إصابة هذا الصبي بإعاقته الشديدة.
ومن أعلى المسرح، يتدلى كرسي متحرك وعليه سماعة وعكاز، وخلال مدة العرض يخاطب الممثلون الكرسي وما عليه مؤكدين أنهم أحن عليهم من البشر الذين إذا لم يضعوا العراقيل في وجه أحلامهم انصرفوا إلى السخرية منهم ومضايقتهم.
العرض في مجمله صرخة في وجه مجتمع لا يرحم، ومطالبة ليس بإصــدار قوانين جديدة تخص أصحاب القدرات الخاصة وإنما تفعيل القائم منها.
وعلى رغم ما يتعرض له المعاقون من عدم تقدير المــجتمع لهم، فإنهم يغنون في مشهد النهاية للوطن معلنين استعدادهم للموت دفاعاً عنه. الوطن الذي لا يراهم في الأساس. هم يدركون أنه لا يراهم ولا يشعر بهم لكنهم يغنون له.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى