تأملات في الشعر العربي المعاصر: عالم من الغموض والإدهاش يطاول الحداثة

إلما راكوزا

أنا لا أتكلم العربية، ولست مستشرقة، بل متخصصة في الآداب السلافية، وكاتبة تملك اهتماما حقيقيا بالشعر، وبالشعر العربي أيضا. تلقيت دعوات إلى مهرجانات الشعر، قادتني إلى اليمن وإلى دبي مرتين. لم ألمس هناك فقط التقدير الكبير الذي يحظى به الشعر في العالم العربي، ولكني أصغيت ساعات متواصلة لقصائد عربية. إن هذا التركيز على الجانب الصوتي للقصيدة كان مثيرا: لقد اكتشفت تكرار الأصوات، القوافي، البحور الشعرية، باختصار: موسيقى الشعر العربي. ولقد أكد لي الشعراء أن اللغة نفسها تمتلك العديد من العناصر الموسيقية، وأن الشعر الجاهلي خصوصا كان شفويا ويعتمد الإلقاء الغنائي. وإلى ذلك التقليد يعود الشعر العربي اليوم كما يعود إلى التقليد القرآني.
تعمق اهتمامي بالشعر العربي عندما خصصت الأكاديمية الألمانية للغة والشعر مؤتمرها الخريفي لعام 2003 في مدينة دارمشتادت للشعر العربي. حضر من بلدان عربية كثيرة شعراء وشاعرات، محمد بنيس من المغرب، محمود درويش من فلسطين، قاسم حداد من البحرين، فؤاد رفقة من لبنان، نبيلة الزبير من اليمن، لقد مثل الحدث عرسا شعريا، وفي هذا السياق التقى شعراء ونقاد ومترجمون من ألمانيا والعالم العربي في ورشة عمل، بداية في ألمانيا وفي مرة ثانية في العاصمة المغربية بدعوة من الشاعر محمد بنيس.

الصورة الشعرية وانفلاتها

هناك حالة من الغرابة والدهشة يمتلكها الشعر العربي المعاصر. أجل، إنه شعر يبدو بالنسبة لجمهور من وسط أوروبا ملغزا ومستغلقا على الفهم، ونخبويا عاطفيا بشكل مهموس. فحتى حين نصادف كلمة «باب»، فليس معناها باب بيت ما، بل شيئا مختلفا، تضاف إلى ذلك معان أخرى: فالظلال لا تعني ما نستظل به، أو الكآبة وما إلى ذلك ولكن البرودة المنعشة والحماية من القيظ. لكن دعوني أكون أكثر دقة وأتحدث عن أهم ميزة للشعر العربي (في الماضي والحاضر) وأعني الاستعارة أو الصورة الشعرية. في تأملاته حول الشعر العربي يرى أدونيس أن الاستعارة في العربية أكثر من مجرد وسيلة تعبير، إذ هي تتموقع منذ البداية في بنية اللغة، وتشير إلى الحاجة الروحية التي تطلب تجاوز الواقع. إنها بنت حساسية ميتافيزيقية تشعر بضيق هذا الواقع وتطلب تجاوزه، في بحث مستمر عن بدائل. وفي مكان آخر يكتب أدونيس، مشيرا إلى الجرجاني، أن الاستعارة تشتغل بطريقة سحرية، فهي تجمع بين المختلف في انسجام، الشرق والغرب، كما لو أنها تتجاوز المتناقضات، لتقدم لنا الحياة والموت والماء والنار كوحدة متناغمة، أو بلغة أكثر إيجازا، إنها أكبر توليفة ممكنة للاختلاف الأكثر جموحا.
«هجوم» محمد بنيس
لنأخذ كمثل عن ذلك قصيدة «هجوم» لمحمد بنيس:
«ليْستْ لي أقواسٌ وقبَابْ
جمْرٌ ينساقُ بمفْردهِ
نحْوي
ولهُ منّي شطحَاتُ الكفِّ
كواكبُ من جُغرافيةِ الأسْلافِ
على أغْصانِ دمِي
تنـشَأُ نوَّارةُ
فتْنـتهَا
يا ريْحانَ الرغْبةِ
منْ هذي الصّحْراءِ المُنفَرجةْ
تتجمّعُ أحْلافي شيئاً شيئاً
وعلى أسْرار الصَّمتْ
نهْجمُ
كمْ أنتَ عَطوفٌ
يا ترْتيلَ جهَاتي المُنْحَجِـبةْ».
تتكون القصيدة خصوصا من استعارات المضاف إليه، من مثل «شطحات الكف»، «جغرافية الأسلاف»، «أغصان دمي»، «ريحان الرغبة»، «ترتيل جهاتي المنحجبة»، وخصوصا الاستعارتين الأخيرتين تخرجان على المألوف، وتشحذان التفكير. ويسأل المرء: ما الذي تريد قوله هذه القصيدة من الاستعارات؟ وما الذي يعنيه هذا الهجوم ضد «أسرار الصمت»؟ من يكلم من هنا ولماذا؟ وهل تتحدث كلمات مثل «الجمر»، «شطحات الكف»، «نوارة فتنتها»، «ريحان الرغبة»، «الصحراء المنفرجة»، «عن حدث أسطوري؟ لكن ما الذي تعنيه الجملة الأخيرة: «كم أنت عطوف/يا ترتيل جهاتي المنحجبة»؟ وللتذكير فقط، فالإسلام لم يعرف المزامير، وعبر هذه الاستعارة نتحرك في المجال الإنجيلي القديم. هل يتعلق الأمر في هذه القصيدة بتحليق شعري في الأعالي، بتفكير يحفر عميقا أو بمنمنمات سريالية قدت من استعارات؟ يمكننا أن نتخلص من هالته السحرية، لكن سيشغلنا، في السر، سؤال عن كيفية فهم هذا النص. إن الأمر يتعلق أيضا بقصائد أخرى، تحمل عناوين مثل «مستحيل»، «متاه»، «صمت»، «عمى»، «ظلال»، وهي كلها مستمدة من ديوانه الذي يحمل عنوانا بنفس صوفي «هبة الفراغ». إنها شعرية تستعصي على الإدراك، وتشتغل وفقا لحساسية ميتافيزيقية، يتم فيها تجاوز كل ما هو واقعي/محسوس. فبالنسبة لمفهومنا الغربي عن الشعر، فإنها قصائد مجتثة، يعوزها التموقع الملموس، الذي من شأنه أن يشرعن هذا التجاوز.

مجازات أدونيس

أريد الآن أن أعرج على شعرية أدونيس، فهو أيضا لا يكتب قصائد سهلة المنال، إنه استعاري، يخلط التقليد الشعري العربي بتأثيرات غربية (بودلير، رامبو، مالارميه، إليوت). لنتوقف أمام قصيدة «القصيدة»:
«أسمعُ صوتَ الزّمن: القصيدَهْ
يَدٌ هنا هنالك، القصيدهْ
عينان تسألانْ –
هل أغلق النّسرين بابَ كوخهِ
هل فتح الإنسانْ
بوّابَةً جديدهْ؟

يَدٌ هنا هناك، والمسافَهْ
تَنوسُ بين الطّفل والضّحيّه
لكي تجيء النّجمةُ الخفيّه
وترجعَ الدّنيا إلى الشّفافَهْ».

وحتى بعد قراءات عديدة، يستعصي علينا فهم هذه القصيدة التي تتحدث عن «القصيدة». هل هو السؤال أم «البوابة الجديدة»؟ هل هو انتظار «النجمة الخفية»، التي ستجلب معها «الشفافة» إلى العالم؟ ستضيئنا القصيدة كمشعل يضيء الطريق، لكن أدونيس يقدم لنا قصيدة ملغزة، تستعصي على اختزالها في معنى واضح. لكن ماذا عن المضامين السياسية؟ في قصيدته «نبوءة»، يبدو كما لو أن أدونيس توقع ما تعيشه بلاده اليوم:
«للوطن المحفور في حياتنا كالقبر
للوطن المخدّر المقتول
تجيء من سُباتنا الألفيّ، من تاريخنا المشلولْ
شمس بلا عبادة
تقتل شيخَ الرّملِ والجرادَهْ
والزمن النابتَ في سهوبهِ
اليابس في سهوبهِ
كالفطر
شمس تُحبُّ الفتكَ والإبادَهْ
تطلع من وراء هذا الجسر».
«شمس بلا عبادة»، «تحب الفتك والإبادة»، تتحول هنا إلى رمز للتدمير. نقف على رفض للتقديس الديني، لكن يبدو أن الشمس تعبر عن جنون بالسلطة، لربما يعني بها، نظام الأسد وطغمته. ويبدو مرة أخرى «الوطن المخدر المقتول» و»التاريخ المشلول» عرضة للسقوط. واليوم يعتبر أدونيس من أشد المنتقدين لنظام الأسد، وتشهد على ذلك نصوصه، ومنها «لحظة سوريا»، التي يمكن اعتبارها من أحسن ما كتب عن الصراع الدموي في هذا البلد وعن خلفيات هذا الصراع. ولا نعدم فيها نقدا للغرب أيضا، الذي كان لسياساته الاستعمارية وتدخلاته في بلدان الشرق الأوسط أثر مدمر.

الشعر والسياسة

لكن هل هناك شعر سياسي عربي؟ وهل يمكن اعتبار الأغاني التي ترددت في الربيع العربي شعرا، وألا تعبر هذه الأغاني عن رسالة سياسية واضحة، وشهدت نجاحا كبيرا من تونس وحتى مصر وخارجهما. سقطت أنظمة وأزهرت آمال بتحقيق تغيير اجتماعي، لكن اختفاء هذا المد الثوري اليوم لا يمكن تحميل مسؤوليته للشعراء. لقد تحلوا بالشجاعة وخاطروا بحياتهم، لكنهم لم يكونوا قادرين على توجيه سير الأحداث، ولم تتمكن قصائدهم من الاستمرار بالحياة. فتلك الأشعار التحريضية التي صيغت في لهجات محلية، لا علاقة لها بالشعر الذي يكتبه بنيس وأدونيس ومحمود درويش، والذي يتميز بتعقيد لغوي كبير. غادرنا محمود درويش، لكنه مثل صوت شعبه وكان شاعرا سياسيا بامتياز. وعن سجنه في أيام شبابه، كتب هذه القصيدة التي تحمل عنوان: «متر مربع في السجن».
«هو البابُ, ما خلفه جنَّةُ القلب.
أشياؤنا – كُلُّ شيء لنا – تتماها وبابٌ.
هو الباب, بابُ الكنايةِ, باب الحكاية, باب يُهذِّب أيلولَ.
بابٌ يعيد الحقولَ إلى أوَّل القمحِ.
لا بابَ للبابِ لكنني أستطيع الدخول إلى خارجي عاشقاً ما أراهُ وما لا أراهُ.
أفي الأرض هذا الدلالُ وهذا الجمالُ ولا باب للبابِ؟
زنزانتي لا تضيء سوى داخلي .. وسلامٌ عليَّ, سلامٌ على حائط الصوت.
ألَّفْتُ عشرَ قصائدَ في مدْح حريتي ههنا أو هناك.
أُحبُّ فُتاتَ السماء .. التي تتسلل من كُوَّة السجن متراً من الضوء تسبح فيه الخيول وأشياءَ أميِّ الصغيرة.. رائحةَ البُنِّ في ثوبها حين تفتح باب النهار لسرب الدجاج.
أُحبُّ الطبيعةَ بين الخريف وبين الشتاء وأبناء سجَّانِنا والمجلاَّت فوق الرصيف البعيد.
وألَّفْتُ عشرين أُغنيةُ في هجاء المكان الذي لا مكان لنا فيه.
حُريتي: أن أكونَ كما لا يريدون لي أن أكونَ.
وحُريتي: أنْ أوسِّع زنزانتي أن أُواصل أغنيةَ البابِ: باب هو البابُ: لا بابَ للبابِ لكنني أستطيع الخروج إلى داخلي».
نقف أمام قصيدة مؤثرة عن الشرط الإنساني كسجين. فمن باب السجن يصنع درويش بابا متخيلة تسمح له بالدخول إلى خارجه، والخروج إلى داخله: الاستعارة كحبل نجاة. لكنها قصيدة تعيش أيضا من أشياء واقعية: من الضوء الذي يتسلل من كوة السجن، أو من ذكريات الأنا الشعرية عن رائحة البن في ثوب الأم، عن سرب الدجاج والمجلات فوق الرصيف البعيد. فهذه الأشياء الواقعية تسمح للشاعر بتوسيع زنزانته والاحتفاظ بأناه وبحريته في النهاية. والقارئ يتبع هذه الصيرورة مسحورا ومتأثرا. إن الباب في الشعر العربي باب بيت، هل قلت بابا للدخول؟ يمكنها كما الحال عند درويش أن تكون باب سجن، وفي الآن نفسه تكون بابا مشرعة على الداخل، لكن درويش لا يبالغ في تجاوزه للواقعي، ليس إلى حد استعمال متتالية من الاستعارات تنفصل عن الواقع. غير أنه يفلح في الجمع بين الحماسة والواقعية، الذاتية والموضوعية، وهو ما يمنح القصيدة صدى إضافيا.
سمة الشعر العربي وعوالمه
إن الشعر العربي يزخر بأشكال مختلفة من الغموض، فهو لا يستعمل أشياء واقعية معينة، كأسماء الشوارع والبضائع، أو توصيفات نفسية مثل الدوار والحرارة والغثيان، الأعداد أو عناوين الجرائد. كما أنه يتجنب النبرة الهرطوقية المتحرشة، لصالح خطاب متماسك، ذي مسحة روحانية. صوره الشعرية تبعث فينا الإحساس بأننا أمام نصوص سريالية، ونزوعه إلى الإيجاز يدفعنا للتفكير بالنصوص الصوفية ـ الأسطورية. تغمرنا الدهشة أمامه وغالبا ما نظل في الخارج. ومع ذلك نشعر بحساسية تدفعنا إلى إرهاف السمع، ويتجلى لنا، كما كتب يواخيم سارتوريوس بأن حلم الكتابة وتجربتها غير منفصلين. إنه لأمر ممتع أن نبحر في الكون المتعدد للقصيدة العربية، حتى إن كنا لن نمسك في النهاية سوى بموسيقاها، لكن ذلك سيسمح لنا بتصحيح صورتنا عن العالم العربي، الذي ما برح ينظر إليه كعالم يعج بالعنف والمتطرفين. لن نلتقي في الشعر العربي بمعايير ودوغمائيات متكلسة. إنه في حركيته المتشظية المعاني، يمثل تعبيرا عن آفاق مفتوحة، وعن ذلك الحوار الخــلاق بين التراث والحداثة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى