الحكاية وإصلاح التاريخ والاسم والغفران في «الليالي»

عبد الرحيم جيران

لقد ختمنا المقال السابق «حكي السلطة والإتيان من المستقبل في ألف ليلة وليلة» بسؤال مهمّ يتّصل بما إذا كانت الحكاية التي يرويها جعفر البرمكيّ تقف عند طلب الغفران أم تتجاوزه إلى هدف آخر. وسنعمل في هذا المقال على تبيين هذا الهدف. ولكي نفعل هذا نطرح مجموعة من الأسئلة: أيُعَدُّ المعنى مرتبطًا بالحكاية فحسب؟ أم يتأسّس أيضًا وفق ما يخترق التعبير عنها من رموز؟ وما طبيعة هذه الرموز في حكاية جعفر البرمكيّ؟ أهي رموز كونيّة؟ أم رموز تاريخيّة؟ أهي رموز مُسننة موجَّهة إلى من تُحكى له الحكاية؟ أم رموز مُوجَّهة نحو مُتلقٍّ يُعايش حاضرها؟ أم مُوجَّهة إلى المتلقِّين الذين يسكنون الأزمنة التي تأتي بعدها؟ وما طبيعة الحبكة التي تُصاغ بموجبها ومُبرِّر سردها؟
أفضل أن نبدأ بالسؤال الأخير، لأنّه يسهِّل فهم رمزية حكاية «نور الدين وشمس الدين» التي يرويها جعفر البرمكيّ لهارون الرشيد. إنّ حكاية «الصياد والصندوق الخشبيّ» (الليلة التاسعة عشرة) تُعَدُّ متضمِّنة المبرِّر الذي دعا جعفر البرمكيّ إلى رواية حكايته لهارون الرشيد، ويتمثّل هذا المبرِّر في علاقة السلطة بالمعرفة القائمة على الوضوح، وتجنّب الالتباس. ويُعَدُّ جعفر البرمكيّ ممثِّلًا لمصدر المعرفة والالتباس معا؛ أي المعرفة بما يجري، والالتباس الذي يهدد الخلافة. والمقطع الآتي يُوضِّح هذا الأمر: «والتفت إلى جعفر وقال: يا كلب الوزراء أيقتل القتلى في زمني ويرمون في البحر ويصيرون متعلقين بذمتي، والله لابد أن أقتص لهذه الصبية ممن قتلها وأقتله. وقال لجعفر وحق اتصال نسبي بالخلفاء من بني العباس إن لم تأتني بالذي قتل هذه لأنصفها منه لأصلبنك على باب قصري أنت وأربعين من بني عمك». إنّ أسلوب التحقير- هنا- لا يدلّ على تقصير جعفر البرمكيّ في قيامه بمهامّه (على المستوى المعرفيّ) فحسب، بل أيضًا على ما يُحيط به وأهله («أربعين من بني عمّك») من التباس. وهذا الالتباس متّصل بالخلافة (الجثّة المقطَّعة). وتُعَدُّ الرغبة في معرفة القاتل (عبد جعفر البرمكيّ) موضعة غير مباشرة للعلّة في جعفر البرمكيّ نفسه وأهله، وما هذه العلّة سوى الاختلال في فعل السلطة ومعرفتها؛ فالعبد القاتل- كما قلنا في المقال السابق- هو مضاف له. كما أنّ التهديد يُعَدُّ ترميزا واضحًا يُشير إلى نكبة البرامكة. ولهذا ليست حكاية «شمس الدين ونور الدين» إلّا حكاية مصوغة بغاية الترميز إلى هذه النكبة، وطلب الغفران.
وينبغي قراءة الغفران بكونه تسريدًا تخييليًّا، لا بوصفه قولًا مباشرًا له. ومن ثمّة يُقام هذا التسريد على رمزيتيْن: رمزية الاسم ورمزية الحكاية. وتتمثَّل رمزية الاسم في التماثل المُتوازي في الاسميْن على مستوى التركيب «شمس الدين» و»نور الدين». وهو تماثل يُحيل أيضًا إلى التوازي بين الحكاية المأساويّة لنكبة البرامكة على يد هارون الرشيد، وحكاية «شمس الدين ونور الدين». وينبغي الوقوف- قبل البحث في هذا التماثل- عند رمزية الاسميْن؛ فالشمس هي رمز للمُلك والألوهية، والنور رمز للوضوح، وهو نتاج الشمس (و/ أو كلّ شيء ناريّ)، وتابعٌ لها؛ ومن ثمّة ينبغي قراءة رمزية الاسميْن في إطار العلاقة بين المصدر (الشمس) وما يتعبه (النور). وليس الاسمان في حكاية «نور الدين وشمس الدين» سوى استبدال رمزيّ لكلّ من الخليفة هارون الرشيد الذي يسمع الحكاية وجعفر البرمكيّ الذي يرويها؛ فهارون الرشيد يمثِّل الشمس وجعفر البرمكيّ يمثِّل النور التابع لها، ولا نورَ من دون شمس، وغيابه يستلزم غيابها أيضًا. وهذا ما تجعله الحكاية مضموًنا لها على مستوى رمزية الاسم؛ والمعنى من هذا أنّ غياب جعفر البرمكيّ وأهله عن السلطة يُعَدُّ إيذانًا بغياب شمس الخلافة. لكنّ معنى من هذا القبيل قد يتعارض مع مضمون الغفران الذي من المفروض أن تعُبِّر عنه الحكاية. وعلينا هنا أن نتريّث قليلا؛ فالغفران مرتبط بفعل الحكي ووضعيته (الحكي من أجل الغفران للعبد ومن ثمّة الغفران لجعفر البرمكيّ). لكنّ حكاية «نور الدين وشمس الدين»- التي تأتي من المُستقبل ـ هي تعبير عمّا كان من الممكن أن يحدث في التاريخ ولم يحدث (العفو والتصالح وإعادة اللحمة إلى السلطة)؛ حكي الممكن الضائع هو ما يُشكِّل رمزية الحكاية التي يرويها جعفر البرمكيّ لهارون الرشيد، جالبًا إيّاها إليه من المستقبل.
كيف تحدث- إذن- رمزية الحكاية؟ إنها تخيل في هيئة خصام بين الأخوين «شمس الدين» الأكبر و«نور الدين» الأصغر والأجمل، وقد جُسِّم هذا الخصام بوصفه جدالا حول المستقبل الذي يُرمَز إليه بتزويج ابنة الأوّل لولد الثاني، وهذا الجدال تامٌّ حول شيء مفترض غير موجود؛ إذ لم يكن الأخوان قد تزوّجا بعدُ. والخصام حول التزويج ترجمة للخصام حول تبادل الموضوعات القيميّة، والمرأة كانت في الثقافات القديمة موضوع تبادل قيميّ، أساسه الاعتراف بالمكانة. وليس هذا الخصام سوى ترميز للصراع الخفي الذي كان بين الخليفة (هارون الرشيد) والبرامكة حول السيطرة على دواليب الحكم. وينبغي التنبّه إلى أنّ السبب الذي قُتل بمُوجبه جعفر البرمكيّ في المتخيَّل الشعبيّ، والماثل في العلاقة بينه وبين العبّاسة، يكاد يتبدّى من خلال هذا الخصام التخييليّ بين شمس الدين ونور الدين حول مسألة التزويج.
لا تقف الحكاية عند الخصام، بل تُسرِّد تبعاته؛ حيث يُهاجر نور الدين تاركًا مصر (زمان التدهور وسيطرة المماليك) نحو البصرة (النزول في التاريخ نحو المصبّ). لكنّ تجسيم التبعات تخييلًا يتمّ على مستوى الخَلَف (الأبناء: حسن بدر الدين ولد نور الدين وستّ الحسن ابنة شمس الدين)؛ فهما يُمثِّلان التركة، ويتعرَّضان للمحنة بفعل بطش السلطة وعبثها؛ فحسن بدر الدين (ابن نور الدين) يهرب طريدًا من مُحاولة سلطان البصرة قتلَه، وستّ الحسن (ابنة شمس الدين) تتعرَّض للمهانة بفعل رغبة سلطان مصر تزويجها من سائسه الأحدب. وتتمثّل رمزية الحكاية في كونها تُخيِّل الممكن الضائع (العفو على جعفر البرمكيّ وإعادة اللحمة للسلطة) من طريق إصلاح الضرر اللاحق بالخلف تخييلًا، وترميم التاريخ برفع السوء عنه. وما العفريت والعفريتة سوى خرجنة بوساطة التخييل للرغبة في إصلاح العطب التاريخيّ، وتجاوز العقاب وتحقيق الغفران؛ إذ يعمل العفريت في ربط الصلة بين الابن (حسن بدر الدين) والابـــــنة (ستّ الحسن) عبر إزاحة الأحدب (رمز السوء التاريخـــــيّ: التدهور) وتزويجهما؛ هــــكذا يتحقَّق إصلاح المُقطَّع (بعث الصبية المقطَّعة في الصندوق المُجسَّد في بعث الصلة القرائبيّة).

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى