«دراكولا» أمير الظلام… ما بين الحقائق والأساطير وخيال الفنانين

زيد خلدون جميل

لا يمر عام دون أن يظهر فيلم أو مسلسل تلفزيوني جديد عن دراكولا، وأمثاله من مصاصي الدماء، هذه الشخصية التي ظهرت في أكثر من مئتي فيلم، التي قام بها مجموعة من أشهر نجوم السينما، مثل كرستوفر لي وبيتر كوشينغ ولويس جوردان وديفد نيفين وفنسنت برايس وبراد بت وتوم كروز وجورج هاملتون. فما الخيال وما الحقيقة حولها، وما القيم التي تحملها كشخصية درامية في المقام الأول تمثل عصرها وعصور لاحقة كما في وعي الأدباء والفنانين؟

دراكولا برام ستوكر

بدأت ظاهرة دراكولا عام 1897، عندما نشر الكاتب الأيرلندي برام ستوكر (1847 – 1912) قصة «دراكولا» عن النبيل الروماني الذي يموت نهارا ويعود إلى الحياة ليلا، وكان الكاتب بارعا في إعطاء الانطباع بواقعية القصة، على الرغم من كونها خيالية تماما. وقد عُثِر مؤخرا على النسخة الأولى للقصة، التي تألفت من أكثر من خمسمئة صفحة.
تدور الأحداث الخيالية حول الكونت دراكولا، البالغ التهذيب الذي عاش في إحدى مناطق رومانيا ومشكلته كانت أن الغذاء الوحيد الذي كان بإمكانه تناوله هو الدم البشري، ولذلك كان يهاجم البشر لامتصاص دمائهم، محولا ضحاياه إلى كائنات مشابهة له وتحت سيطرته. ثم انتقل دراكولا إلى إنكلترا، حيث اشترى هناك عدة بنايات، وأخذ يحاول امتصاص دماء النسوة وتحويلهن إلى مصاصات دماء تحت سيطرته، إلا أنه يدخل في صراع مع مجموعة من الإنكليز من كلا الجنسين، الذين ينتصرون عليه في نهاية المطاف وهكذا تنتهي القصة، التي لا تخلو من الأبعاد السياسية والجنسية والدينية الواضحة.
وتأتي شهرة القصة الحقيقية عام 1922، عندما عرض الفيلم الألماني «نوسفراتو» الذي كان مأخوذا عن قصة دراكولا الأصلية، ومما زاد من شعبية الفيلم، ما تناقلته الصحف آنذاك حول القضية التي رفعتها زوجة المؤلف برام ستوكر، ضد منتجي الفيلم لعدم حصولهم على موافقتها على إنتاج الفيلم، ووصلت شهرة قصة دراكولا ذروتها عندما تبنتها هوليوود، وعرض أول فيلم أمريكي حولها عام 1931، ومنذ تلك اللحظة لم تتوقف الأفلام والكتب عن دراكولا حتى الآن، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن المؤلفين اللاحقين غيروا البعض من التفاصيل حسب مزاجهم، ففي بعضها مثلا لا يظهر انعكاسا لدراكولا في المرآة، أو أنه يتحول إلى ذئب أو وطواط أو بقائه حيا نهارا وأشياء أخرى.

دراكولا الأسطوري

يعتقد الكثيرون أن مؤلف القصة الأصلية لم يكن برام ستوكر مبتكر تماماً لشخصية دراكولا، فهو شخصية حقيقية، ولكنه لم يكن مصاص دماء، وأما مصاصو الدماء فخرافتهم كانت موجودة قبل تأليف القصة من قبل برام ستوكر، الذي قام بدمج دراكولا ومصاصي الدماء ليجعل من دراكولا واحدا منهم. ويختلف المؤرخون حول أصل هذه الخرافة، وهناك آراء حول بدايات من آشور أو سومر، ولكن المؤكد هو أن الأسطورة كانت موجودة في أوروبا الشرقية، في العصور الوسطى، حيث أن أقدم أثر مؤكد لها كان من القرن الحادي عشر في صربيا، ثم انتشرت في المانيا وإنكلترا. ومع انتقال الأوروبيين إلى أمريكا الشمالية، انتقلت الخرافة معهم إلى هناك، ولا يزال من يعتقد بالوجود الحقيقي لمصاصي الدماء في الوقت الحاضر. وكانت الخرافة في بدايتها مختلفة نوعا ما عما هي عليه الآن، وتطورت تدريجيا، فقد اعتقد الأوروبيون أن الأطفال الذين يتوفون قبل تعميدهم في الكنيسة سيعودون إلى الحياة لينتقموا من الآخرين، وكذلك الذين يموتون ميتة عنيفة، أو الذين يموتون في بداية انتشار الأوبئة، أو الذين يموتون أثناء الجفاف وخراب المحاصيل، أو أي كارثة أخرى. وفي روسيا اعتقد الناس أن الذين يتمردون على الكنيسة يعودون إلى الحياة بعد وفاتهم، لقتل الناس، وقد اختلفت التفاصيل حسب الزمان والمكان، ولكن الإطار العام للقصة بقي كما هو، مع استثناء تفصيل امتصاص الدم، فقد كان الأوائل يقتلون ضحاياهم بالنظر إليهم، أي «يصيبونهم بالعين». وكان يدعي البعض بين الحين والآخر مشاهدتهم لمصاصي الدماء مثيرين بذلك الهلع بين الناس البسطاء، الذين كانوا سريعي التصديق للخرافات وما زالوا. وأظيفت صفة امتصاص الدماء في القرن السابع عشر، بسبب جهل الناس وقلة معرفة الأطباء بما يحل بجثث الموتى من تعفن، حيث أن الجثة الميتة تصاب بالتعفن وتتجمع الغازات داخلها، ثم تندفع إلى خارج الجثة عن طريق الفم مخرجة معها دماء، وفسر الناس هذه الظاهرة بأن الميت عاد إلى الحياة ليلا وامتص دماء أحدهم. ولكل هذه الأسباب أخذ الناس منذ القرن الحادي عشر بابتكار مختلف الطرق لمنع من يظنونه أنه سيعود من الموت، والخروج من القبر، ومنها دفن الجثة بحيث يتجه الوجه إلى الأسفل، أو يثبتون الجثة بقضيب خشبي أو معدني عن طريق دك القضيب في صدر الجثة، أو وضع منجل على رقبة الجثة، على أساس أن يقطع المنجل الرأس في حالة محاولة الميت النهوض وكانت هناك أفكار أكثر بشاعة.

دراكولا التاريخي

ظهرت الكلمة الإنكليزية لمصاصي الدماء «vampire» في القرن الثامن عشر، ويعتقد أنها أتت من اللغة الألبانية أو الصربية. أما كلمة دراكولا التي دخلت عالم مصاصي الدماء على يد ستوكر، فلها قصة مثيرة، حيث قام المؤلف بالادعاء أن شخصية دراكولا مأخوذة من أمير إحدى مناطق رومانيا، يدعى فلاد الثالث (1431 – 1476) الذي كان لقبه دراكولا، ففي ثلاثينيات القرن الخامس عشر وجد أمير إحدى مناطق رومانيا يدعى فلاد الثاني نفسه بين قوتين متناميتين، وهما العثمانيون من جهة ومن جهة أخرى ملوك أوروبا الشرقية، خاصة هنغاريا والإمبراطورية الرومانية المقدسة، وفي الوقت نفسه كان في صراع دموي مع أمراء المناطق المحيطة بمنطقته، وكان كل منهم يحاول القضاء على الآخر بشتى الطرق، فقد كان العالم أشبه بغابة تسكنها الوحوش. واختار الأمير فلاد الجانب الأوروبي في هذا الصراع، فانظم إلى تنظيم ديني للفرسان تزعمه ملك هنغاريا سُمي تنظيم دراكو (دراكو باللغة اللاتينية تعني التنين، ومنها اشتقت هذه الكلمة في العديد من اللغات الأوروبية ومنها الرومانية والألمانية والإنكليزية) ولذلك أصبح دراكيول لقب فلاد الثاني، حسب اللغة الرومانية، وابنه دراكولا أي ابن دراكيول. ومرة دعى العثمانيون فلاد الثاني لزيارتهم والتفاوض معه عام 1442، فحضر الأمير مع ابنه الثاني فلاد دراكولا والابن الأصغر رادو، وما أن اجتمعوا بالعثمانيين حتى احتجزهم هؤلاء وأبلغوه بأنهم سيبقون ابنيه دراكولا ورادو في «ضيافتهم» رهينتين، ولكنهم سيطلقون سراحه ليعود إلى وطنه، على شرط أن يأخذ جانب العثمانيين في الصراع الدائر مع هنغاريا، فوافق الأمير الأب على ذلك، وهكذا عاد إلى منطقته، ولكنه لم يلتزم بوعده وناصب العثمانيين العداء، على الرغم من وجود ابنيه لديهم رهينتين، ولكن من الأمور الغريبة أن العثمانيين لم يقتلوا ابنيه، على الرغم من عمله هذا، بل علموهما العلوم والفروسية حسب مقاييس ذلك الوقت. وفي عام 1447 قُتِلَ الأب على يد الأمراء المنافسين له، فأرسل العثمانيون الابن دراكولا على رأس جيش قوي ليخلف أبيه، وكان لهم ما أرادو، إلا أن دراكولا ما فتئ أن انقلب عليهم وتحالف مع أعدائهم، ومع تغير المواقف عكس تحالفاته عدة مرات وعُرِفَ دراكولا بقسوته المريعة، وقتل من العثمانيين والأوروبيين الكثير، وكان أسلوبه المفضل في التعذيب والقتل هو الخازوق. وكان دمويا مع كل من قد يعارضه، وفي إحدى المرات دعا الأمراء الرومانيين الآخرين إلى مأدبة ضخمة، وكانت هذه آخر مأدبة لهم، لأنه قتلهم جميعا فيها. وفي إحدى المرات عندما حضر اليه وفد عثماني عمد إلى قتلهم جميعا، بدق المسامير في رؤوسهم ويقال إنه كان يستمتع بتناول طعامه وسط ضحاياه المعلقين على الخوازيق، وإنه كان يغمس الخبز في دمائهم قبل أكله. وكان الألمان من ضحاياه الذين أخذوا باستيطان بعض المناطق في رومانيا، ودعموا منافسيه من الأمراء، وقد يكون هذا سبب شهرته فقد اخترع الألمان الطباعة حوالي عام 1450 ونشروا الكتب والمنشورات عنه فانتشرت بسرعة كبيرة في ألمانيا، وكانت أكثر الكتب مبيعا، هي عن دراكولا وقسوته الجنونية وبذلك خلده التاريخ. وقد قتل دراكولا هذا مع ابنه ومجموعة من جنوده عندما تعرضوا لكمين وهم في طريقهم لقتال العثمانيين عام 1476.

دراكولا السياحي

وفي الوقت الحاضر يعتبره الرومانيون بطلا وطنيا لمحاربته العثمانيين، ولكن في الحقيقة لم تكن لدى الرجل أي مشاعر وطنية، بل كان كل ما يصبو إليه هو الاستيلاء على السلطة، كما أنه قتل من الأوروبيين بقدر ما قتل من العثمانيين. وإذا وصفنا دراكولا بالقسوة المفرطة، فعلينا أن نأخــــذ بالحسبان أن من تكلم عن قسوته كانوا أعداءه، خاصة الألمان وكُتابهم الذين كلما زاد وصفهم زادت مبيعات كتبهم، ولذلك فإن قسوته المزعومة، ربما كانت مبالغا فيها، كما أنه كان يعيش في زمن اتصف بالقسوة، أي أنه من المحتمل أن دراكولا لم يكن أسوأ من أعدائه.
ومن يزور رومانيا اليوم يستطيع أن ينضم إلى الرحلات السياحية التي تأخذه إلى قصر دراكولا، الواقع في أعالي جبال يكسوها الضباب الكثيف، ويشعر المرء فعلا أنه في عقر دار دراكولا المجرم أو مصاصي الدماء، ولكن الأمر لا يعدو أكثر من دعاية سياحية، لأن دراكولا في الحقيقة لم يكن يقيم في تلك المنطقة، ولم تكن لديه أي علاقة بذلك القصر، والأمر برمته ليس سوى خدعة لجذب السياح.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى