سوريا في الوثائق العثمانية خلال القرنين 18 و19: إصلاحات جديدة وتمردات محلية

محمد تركي الربيعو

عقب دخول العثمانيين إلى سوريا، شكّلوا في سنة 1518 ولاية الشام العربية لتضم ما مجموعه ثمانية عشر سنجقاً، في بقعة تمتـــد حتى بايبورت في الأناضول. وفي سنة 1549 أُجرِيت عملية تشكيل جديدة فأصبحت ولاية الشام ولايتين: حلب والشام، أما في أوائل القرن السابع عشر قُسِّمت المنطقة إلى ثلاث ولايات، هي الشام وحلب وطرابلس، وفي سنة 1865 أُجرِي تغيير إداري جديد، إذ دُمِجت صيدا مع دمشق، وأطلق عليهما اسم ولاية سوريا.
وفي سنة 1882 فُصِلت بيروت إلى ولاية مستقلة، كانت تمثّل الميناء الأكبر لسوريا ومركزها التجاري الأول. أما حلب فقد ظلت على حالها ولاية مستقلة. وهناك مارست الدولة العثمانية الحكم بأسلوب ناجح ومتوازن حتى القرن التاسع عشر، غير أن مظاهر التدهور والخلل التي عاشتها الإدارة، توازياً مع الضعف الذي أصاب العثمانيين في ما بعد، أثّر على الولايات القائمة في المنطقة، ودخلت بلاد الشام ابتداء من أواخر القرن الثامن عشر مرحلة الانفصال عن الدولة العثمانية، ولا سيما مع اهتمام الأوروبيين بها وظهور الفعاليات التبشيرية هناك عبر المدارس الأجنبية التي أخذت تتأسس داخل أراضي الدولة العثمانية، وهو الأمر الذي يشير إليه تقرير قدمه وزير المعارف في الدولة زهدي باشا إلى السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1894، إذ يشير في هذا التقرير إلى أنه من غير الممكن تقديم احصائيات دقيقة عن المدارس والمؤسسات التبشيرية في الدولة العثمانية، بسبب التزايد المستمر في عددها.
ومع ازدياد نشاط هذه المدارس، أبدى بعض مسؤولي الدولة تخوفهم من تأثيرها على الرعايا العثمانيين، خاصة أنها كانت تنشط في أماكن لا يوجد فيها طلاب أجانب، أو طوائف غير إسلامية، بالإضافة إلى امتناعها عن تدريس اللغة العثمانية الرسمية، وطبقاً لما ورد في كتاب رفعه والي بيروت إلى الصدارة العظمى في 5 تشرين الثاني/نوفمبر 1894 – يأتي على ذكر مضمونه المؤرخ العراقي في الدراسات العثمانية فاضل بيات، في موسوعته المهمة حول «مؤسسات التعليم العثماني في بلاد الشام في ضوء الوثائق العثمانية»- أن أمريكا وإنكلترا وإيطاليا، كانت تقدم دعماً مالياً كبيراً للمدارس التي أنشأتها في ولاية بيروت، حتى أن فرنسا كانت تخصص لها سبعين ألف فرنك من ميزانيتها السنوية، وفي سنة 1894 رفعت هذا المبلغ إلى 120 ألف فرنك.

مرحلة التنظيمات

من جانب آخر، حاولت الدولة العثمانية خاصة بعد مرحلة التنظيمات العثمانية 1839 إجراء العديد من الإصلاحات الإدارية والاجتماعية وحتى الخدمية، ولذلك أخذت تلك الفترة تشهد استخدام الكهرباء في الإنارة، وتشغيل خطوط الترام والسكك الحديدية، كما شهدت إقامة كلية الطب ومستشفيات جديدة، كما تبنت حركة الإصلاح العثماني، برنامجاً تعليمياً كبيراً أخذ يؤتي بثماره بشكل ملموس لدى شرائح وأطياف واسعة من رعايا الدولة العثمانية، تلك التي كانت تعاني حالة من التهميـش والإهمال في هذا الجانب. ففي البداية كان الجيــــش يحتاج إلى نمط جديد من المدارس تقدم تعليماً معلمناً جديداً، ومفتوحاً أمام جميع رعايا العثمانيين ومن دون تمييز قائم على الجنس أو الدين، ولكن بعد تأسيس مدارس الهندسة العسكرية ثم المدارس الطبية الأولى، أخذت تتأسس مدارس الإدارة والقانون والألسن، وبعد ذلك سلسلة من المدارس الابتدائية والثانوية الحكومية (مكتب عنبر في دمشق مثلاً)، ما أدى إلى نشوء علاقة جديدة بالمعرفة ونمط جديد من الفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين والإداريين داخل الحياة العثمانية لمدينة دمشق.
مؤخراً، وفي سياق إكمال الصورة حول سوريا في الفترة العثمانية، سعى عدد من الباحثين الأتراك بالتعاون مع المديرية العامة لدور المحفوظات الرسمية/دائرة الأرشيف العثماني إلى إصدار كتاب تحت عنوان «سوريا في الوثائق العثمانية» حاولوا من خلاله نشر وثائق عثمانية جديدة حول سوريا الحالية، شملت مواضيع تتعلق بالحكم والإدارة، والحياة الاجتماعية والاقتصادية، والإعمار والمرافق العامة، والأمن العام، والصناعة والتجارة الزراعية، والحياة الصحية، والتعليم والثقافة، والحرب العالمية الأولى، التي جاءت في غير صالح الدولة العثمانية على مستوى خروج سوريا، والعديد من المناطق الأخرى من حوزتها. كما زُوِّدت ودُعِمت فصول الكتاب بالخرائط وصور فوتوغرافية (حوالي أربعين صورة وخريطة) معظمها تنشر لأول مرة.
وعن علاقة الملل العثمانية ببعضها في تلك الفترة، تُظهِر لنا بعض الوثائق، لا بل تؤكد أحياناً ما وصلت إليه العلاقة بين هذه الملل من حالة توتر، ردّها البعض كما في كتاب ليندا شيلشر «دمشق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر» إلى أسباب تتعلق بالتنافس الاقتصادي، والتدخلات الخارجية، والصراع على الحكم المحلي بين وسطاء محليين جدد ووسطاء أقدم (نخبة الشاغور في مقابل نخبة الميدان)، وفي هذه الوثائق نجد أن الدولة العثمانية سعت إلى تخفيف حدة هذا التوتر، وإلى التقليل من حالة عدم الرضا التي كانت تشعر بها بعض الأقليات داخل ولاية سوريا، إذ ترد في وثيقة تعود لـ(1 أبريل/ نيسان1850) تعليمات إلى ولاية سوريا بفرض ضريبة على الرعايا غير المسلمين في الشام، بما يتفق وأوضاعهم المادية، ومما جاء في الوثيقة «لقد علم أن تحصيل الضريبة السنوية من الرعايا الروم والملكيت والموارنة والسريان والأرمن المقيمين في الشام، إنما يجري بما يفوق طاقاتهم، وبالتالي يقع الظلم عليهم، وعليه أجمع بطارقة الملل المذكورة على ضرورة أن يكون فرض الضريبة تبعاً لما هو موجود من أملاك أو تبعاً لنتائج تعداد النفوس. ومن هنا كان على «مجالس محاسبات المالية» أن تقوم من جديد بتنظيم الضرائب حتى تتناسب مع أوضاع وطاقات كل الناس، وغيرها». كما يرد في وثيقة أخرى تعود لعام 1885/ فبراير/شباط إشارة من مجلس الوكلاء (الوزراء) إلى أن ما نُشِر بشأن طلب الموارنة في سوريا للحماية الفرنسية، أمر لا أساس له من الصحة، وبالتالي يجب المحافظة على حقوق الأهالي، وتحميل مسؤولي الدولة المحليين أي نتائج تأتي خلاف ذلك.
وعلى مستوى تطوير الخدمات وشبكات المواصلات داخل ولاية سوريا، توضّح بعض الوثائق كيف ومتى بُنِيت شبكات الترام داخل الولاية، ولمن أُلزِمت هذه المشاريع. ففي 12 يونيو/حزيران 1879، تُظهِر إحدى الوثائق أمرا سلطانيا صادرا حول إقامة خط للترام من دمشق إلى حوران، وهذا يقتضي شراء الأراضي التي سيمّر منها، وتعويض أصحابها بما يتفق والقانون، مع عدم الإضرار بمصالح الناس بأي شكل من الأشكال.

السكك الحديدية

وتُظهِر وثيقة أخرى لعام 1890 مايو/أيار، أن من حصل على امتياز بناء خط السكة الحديدية بين حيفا وبيروت هو المهندس يوسف الياس أفندي. ولم يقتصر الأمر على هذه الجوانب، بل نعثر في وثائق أخرى على العديد من الأفكار والآراء والشكوك حول مشاريع إنشاء سكك الحديد داخل ولاية سوريا العثمانية، إذ تُناقش في الوثيقة التي تعود لعام 1890/27 مايو، بعض المزاعم التي رددها الفرنسيون من قبيل «أن الشخص المدعو يوسف عزت الذي يسعى للحصول على امتياز مد السكة الحديد من حيفا إلى دمشق رجل في الأصل يعمل لصالح الإنكليز لاحتلال سوريا»، وفي هذه الحالة فإن الخط الحديدي المذكور سوف يجري ضمه إلى خط الهند، ويكون سبباً في قيام الإنكليز باحتلال سوريا»، ولم تنظر السلطات العثمانية بجدية إلى هذه المزاعم، وغالباً ما نظرت لهذه الاتهامات بوصفها تعكس في الواقع ذلك الصراع الإنكليزي الفرنسي على سوريا. مع ذلك يرد في الوثيقة اقتراح حول ضرورة منح امتيازات مد السكة الحديد في سوريا إلى جهات ليس لها مصالح سياسية أو استعمارية مباشرة في تلك الفترة داخل المنطقة، مثل الألمان أو البلجيكيين أو الأمريكان.
وعلى مستوى الخدمات أيضاً، نعثر في الكتاب على وثائق تتعلق بفترة البدء بخدمة الإنارة داخل مدينة دمشق، إذ تشير وثيقة تعود إلى 1906/6 ديسمبر/ كانون الأول إلى أن المرافق التي ستقوم بإنارة مدينة دمشق قد اُنهِي بناؤها، وعلى ذلك يقتضي الأمر إجراء معاملات الموافقة المؤقتة تطبيقاً لاتفاقية الامتياز. كما نعثر على وثيقة أخرى تعود لتاريخ (21 أغسطس/آب 1912)، يُشار ضمنها إلى حريق شب في سوق الحميدية في دمشق، وأنه رغم كل التدابير فإن الحريق قد اتسع نطاقه بسبب السقوف الخشبية وشدة الرياح، فاحترق نتيجة لذلك 530 حانوتاً ودكاناً وعشرين منزلاً وثلاثين مسجداً ومدرسة، وأن الخسائر بلغت مليوني ليرة، ولذلك فقد قامت السلطات المحلية في مدينة دمشق بتقديم العون المالي إلى المتضررين من هذا الحريق.

مرحلة الفوضى الأمنية

كما يُظهِر الكتاب، أن بعض مدن سوريا (دمشق، حلب) شهدت في النصف الأول من القرن التاسع عشر فترات عديدة من الفوضى الأمنية أو العصيان، والتمردات المحلية على الأوضاع اليومية والضرائب العثمانية. وفي هذا الجانب ترسم لنا الوثائق صور حية عن هذه الفترات، ففي وثيقة تعود لتاريخ 18 يناير/كانون الثاني1817 يرد أمر مرسل إلى والي حلب سيد باشا إبراهيم، رداً على وصول خطابه الذي جاء فيه «أن حلب صارت ساحة يجول فيها قطاع الطرق من العرب والأكراد، ما دفعه لأن يقوم بإقرار عدد من المحافظين في المواضيع اللازمة لأجل حماية الأهالي، وأن عمو أوغلي بطال والمدعو عمر من الأشقياء المشهورين الذين اتفقوا مع بعض أمراء العشائر، ويتخذون من المنطقة المجاورة لإحدى القرى مكاناً للاختباء»، وعلى ذلك تؤكد الرسالة على أنه يجب على الوالي مواصلة جهوده لحماية الأهالي والحفاظ على أرواحهم وأموالهم، والعمل على إقرار الأمن والأمان بين الناس. ويبدو أن الأحداث في حلب قد عادت مرة ثانية لعدم الاستقرار في سنة 1920/ 6 فبراير وفي عام 1829، إذ ترد وثيقتان تؤكدان على ضرورة إخماد العصيان في حلب، ثم عادت من جديد في 21 أكتوبر/تشرين الأول /1850، فتذكر وثيقة في هذا التاريخ عن كتاب وارد من حلب أن الثورة التي اشتعلت في محلة باب النيرب أخذت تكبر بسرعة، وأن عدد الثائرين راح يتعاظم حتى بلغ 30-40 ألفاً مع توافد الناس من القرى والعشائر والأماكن الأخرى، وأن سبب ثورتهم هو أن المسيحيين يحملون الصلبان علناً، ويقرعون الأجراس، كما أنهم يعارضون نظام الجندية الموجود؛ وقد قام الثائرون بنهب مخازن السلاح والذخيرة وراحوا يعتدون على بيوت غير المسلمين، ولم يكن بالإمكان التصدي لهم من قبل الجنود الموجودين في ثكنة حلب بسبب قلة عددهم (540) جندي. أما على مستوى مدينة دمشق، نعثر على وثيقة حول «تمرد أرباب الحرف في الشام» تعود لتاريخ 10/فبراير1831، ومما جاء في هذه الوثيقة «أن الضريبة التي تم فرضها بقصد مواجهة نفقات الحروب ونفقات الجيش الذي أقيم حديثاً قد أدت إلى إثارة سخط أرباب الحرف والصنايع في الشام»، وهو ما أدى إلى أن يقوم أرباب الحرف بإغلاق حوانيتهم ودكاكينهم، ثم احتشدوا وساروا نحو باب قصر الحكومة، ولم تسفر النصائح التي وجهت إليهم عن شيء، و»حدث عراك وصدام سقط فيه عدد من القتلى والمصابين من بين الأهالي».
وفي السياق ذاته، تُظهِر بعض الوثائق أن علاقة العشائر العربية والسلطات المحلية العثمانية لولاية سوريا لم تكن قائمة على ثنائيات البدو/الحضر، وإنما جاءت كنتيجة ظروف تاريخية مختلفة. كما تُظهر وثائق أخرى أن الدولة العثمانية رغم حالات الشقاوة وقطع الطرق التي قامت بها بعض العشائر في بلاد الشام، حاولت كسب ود هذه العشائر والتصالح معها. فمثلاً ترد وثيقة في تاريخ 19 يوليو/تموز 1846 حول أن أفراد عشيرة عنزة الذين أوقعوا الضرر بالأهالي في حلب قد طلبوا العفو والأمان، وعليه فقد تم قبولهم للتسليم شريطة أن يؤدوا عشرين قرشاً ضريبة عن كل جمل يبيعونه وأن يقدموا لهم ألف جمل نفقات للعساكر..

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى