كيف نقرأ ميشيل ويلباك بالعربية؟

سعيد الخطيبي

منذ أكثر من عشر سنوات، اتّخذ ميشيل ويلباك من العربي خصماً له، خصوصاً العربي المُسلم، وستكتمل ملامح خصم ويلباك لو وجد أمامه عربياً ومسلماً ومهاجراً، كلّ فرد يحمل هذه الهوية الثّلاثية سيجد نفسه في مواجهة كلمات قاسية وواضحة من ويلباك، هذا الأخير فضّل أن يصطف في ضفّة العداء، قريباً من اليمين المتطرّف في فرنسا (هو يتقاطع مع اليمين المتطرّف رغم مجاهرته بالعكس)، وراح ينوّع من خرجاته الإعلامية «الحاقدة» على العرب المسلمين المهاجرين في أوروبا، ففي واحدة من تصريحاته السّابقة، تجاوز ميشيل ويلباك حدود اللباقة حين قال ـ علناً ـ إن «الإسلام دين حمقى».
هذا التّصريح أثار ـ وقتها ـ ردود فعل محتشمة سرعان ما توارت، وكرّس ويلباك حقده على العربي المسلم في روايته الأخيرة «استسلام»(2015)، التي وصلت إلى العربية (عن دار الجمل)، لتضع ويلباك نفسه ـ الآن ـ وحيداً في مواجهة من يعتبرهم خصوماً لهم: العرب. فهل سيجد القارئ العربي ما يُدافع به عن نفسه؟ أم أنه سيتقبّل ما كتبه عنه ويلباك، الذي صنع ـ طويلا ـ نجاحاته، بفضل كتاباته أولاً، ثم بفضل ميله المفرط لإثارة الجدل والاستفزاز.
ميشيل ويلباك شاعر مُجدّد، قبل أن يكون روائياً، «يُلاحق السّعادة» كما كتب عام 1991، ويتجدّد في القصيدة. لكن لسوء حظّه عُرف كروائي فقط (عدد المجموعات الشّعرية التي أصدرها يتجاوز عدد الرّوايات)، روح الشّاعر تلاحقه في كتاباته، فعنوان روايته «احتمال جزيرة»(2005) مُقتبس من قصيدة كتبها، قبل خمسة عشر عاماً. الرّوائي ميشيل ويلباك خنق صوت الشّاعر فيه، ولم يمنحه فرصة للظّهور، ثم إن إصراره على بعض التّجارب الفاشلة، في الغناء أو التّمثيل (لعب بطولة فيلم «اختطاف ميشيل ويلباك»)، مع تكرار خرجاته الإعلامية، بات يؤثّر على تلقي رواياته، خصوصاً في المحيط العربي، فقبل سنوات تُرجمت روايته «الخريطة والإقليم»(2010) الفائزة بجائزة غونكور، إلى العربية، لكنها لم تلق متابعة تليق بها، كما لو أنّ القارئ العربي مهتمّ أكثر بالتّفاعل مع تصريحات ويلباك، والردّ عليها، في الصّحف أو في مواقع التّواصل الاجتماعي، أكثر من القراءة الهادئة والنّقدية له.
في رواية «استسلام» يتخلّى ميشيل ويلباك قليلاً عن وظيفة الكاتب، ويستسلم للمساجلات السّياسية، ينصب نفسه «رائيا»، ليسرد مآلات الوضع في فرنسا، بعد خمس سنوات من الآن، يفرض نظرة سوداوية للوضع، والسّبب هو ما يتخيّله من صعود للمهاجرين المسلمين في فرنسا، وتشكيلهم لحزب سياسي، يُطلق عليه اسم «الأخوة الإسلامية»، سيفرز شخصية محمد بن عبّاس، العربي المُسلم الفرنسي، الذي سيجد نفسه في مواجهة مارين لوبان، زعيمة اليمين المتطرّف، في انتخابات رئاسية، سيفوز فيها، بعد أن يضمن تحالفاً مع اليساريين وأنصار وسط اليمين. هكذا، مثلما كانت توني موريسون تستبشر برئيس أمريكي أسود (وحصل فعلاً)، يحذّر ميشيل ويلباك مواطنيه من فرضية صعود رئيس مسلم، يشيطن الرّوائي صورة المسلمين، ويتوقّع أن هذا الرّئيس سيكون بداية إعلان نهاية الجمهورية، لأنه سيُلغي المواثيق العلمانية، ويوسّع من حضور الدّين الإسلامي في المدرسة وفي الشّارع، مع ما يتضمّنه من فصل بين الجنسين وإقرار لتعدّد الزّوجات، تضييق على شعائر اليهود، انتشار النّقاب والحجاب في الجامعات، إلخ.
ميشيل ويلباك لا يؤمن بفرضية التعدّد العرقي والثّقافي في فرنسا، إنه وفيّ للنّظرة الديغولية للفرنسي، باعتباره، أبيض، مسيحيا، ذا ثقافة لاتينية، وأيّ فرد يخرج عن هذه المكوّنات فهو ليس فرنسياً.
صحيح أن ويلباك عنون روايته ﺑ»استسلام»، لكنه كان يقصد من العنوان نظيره، أي «العصيان»، كان يُمكن أن يعرض فكرته حول مستقبل فرنسا، في كتاب نقدي أو فكري، لكنه فضّل الرّواية، اللعب على المتخيّل، كي يجنّب نفسه النّقد، وقد تزامن صدور الرّواية ذاتها، مع الهجمة الإرهابية التي تعرّضت لها صحيفة «شارلي إيبدو»، مما رفع سريعاً من أرقام مبيعات الرّواية، في فترة كانت تعيش فيها فرنسا تحت حمى الإسلاموفوبيا، وكره العرب المهاجرين، ووجد ويلباك نفسه ـ رغماً عنه ـ نبي معاداة الإسلام في بلده. لكن، بمرور سنة واحدة على الأحداث الإرهابية التي هزّت فرنسا، عاد النّقد الموضوعي للرّواية، تجاوز النّاس حالتي الخوف والانبهار، وبدأت تظهر بعض الاختلالات في رواية ويلباك، الذي – ربما – حاول أن يُساير جورج أورويل في رواية «1984»، لكنه وقع ضحية أنانيته وحقده على العربي والمسلم. ميشيل ويلباك يتوقّع أن فرنسوا أولاند سيحكم فرنسا لعهدتين، لكن هذا لم يحصل، ويتوقّع الكاتب أن يشاهد المذيع الشّهير دافيد بيجاداس يعلن، في القناة الفرنسية الثّانية، عام 2022، فوز محمد بن عباس، برئاسة فرنسا، لكن المذيع نفسه استبعد من مهامه، ولن يعود إلى الشّاشة مجدداً. هذه بعض التّفصيلات الصّغيرة، لكنها مهمّة، تجعل من رواية «استسلام» صعبة الهضم، في الوقت الحالي، لأنها ارتبطت بأحداث تجاوزها الواقع، لكن هناك زوايا أخرى منها مهمّة، تستحق أن نتوقّف عندها، ومن المهمّ للقارئ العربي أن يطلّع عليها. خصوصاً نظرة ويلباك للعربي والمسلم، ونقده لثقافة المسلمين المهاجرين. إنه يستفز القراء العرب لإعادة النّظر في أنفسهم ونقذ ذاتهم، وإعادة تحليل ثقافتهم، في الدّاخل وفي المهجر. ميشيل ويلباك لا ينزلق إلى الكليشيهات الإعلامية، لا يصوّر المسلم باعتباره يحمل جينات عنف، هو ليس إرهابيا ولا مُجرما، بل يصوّر بطل روايته (الرّئيس المحتمل) باعتباره مسلماً معتدلا، يُمارس اللعبة الديمقراطية ـ بكلّ قواعدها ـ ويفضّل الحوار، وله قدرة على الإقناع، وكسب تحالفات مع قوى سياسية تقليدية، إذن فإن الرّوائي الفرنسي ينتقد الإسلام الفرنسي (من وراءه الإسلام الأوروبي) في عدم تقبّله لعلمانية الجمهورية، وإفراطه في التّمسك بعادات وممارسات، مقبلة من الدّول الأصلية للمسلمين، فشلوا في الاندماج في المجتمعات الغربية.
في رواية «استسلام» لا يكتفي ويلباك بنقد ناعم للإسلام في أوروبا، كما هو الحال مع بعض الرّوائيين الفرنسيين الآخرين (ماتياس إينار مثلا)، لا يستعين بتاريخ الإسلام في أوروبا، بل يبني روايته كلّها من ملاحظات راهنة، إنه يضع يده على الجرح، يضغط ـ بحدّة ـ على مناطق الألم في الجسد العربي الجريح، يرسم بورتريه المسلم الأوروبي، الذي لم يحدّد وجهة بوصلته، ولم يختر أي النّمطين الأنسب له: العيش بعقيدة الآباء أم محو الثّقافة الأمّ والاندماج في العلمنة الفرنسية! ويلباك لا يُهادن، ولا يبالي بوظيفته ككاتب، بل كمثقف عضوي، في مجتمعه، يعلم أن مئات الآلاف من الفرنسيين يشاركونه الهمّ نفسه، الضّرر ذاته، لهذا، فمن المجحف الردّ على ويلباك بالإساءة، لأنه يقدّم نصاً متماسكاً فنياً، رواية مهوسة بأسئلة المرحلة التي نعيشها الآن، ويحمل كثيراً من الإسقاطات ومن القراءات التي من المهمّ أن ننتبه إليها، عن وضع الإسلام والعرب في فرنسا، وسيكون مهماً للقارئ العربي أن يعيد قراءته لينظر إلى نفسه من مرآة كاتب يفهم تحوّلات المجتمع الفرنسي، وما يُعاني منه من تشوّهات، أكثر من غيره.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى